يبدو لى انه لم يحدث أن اتفقنا كمصريين منذ وقت بعيد على قضية ما، مثلما اتفقنا على أن هناك حالة من الاحتقان والاستقطاب والتطرف الشديد نعانى منها، تظهر فى لغة سجالية وتجريحية وتكفيرية وتخوينية أظنها غير مسبوقة ليس فقط فى المجالين السياسى والفكرى وإنما امتدت إلى الدينى والرياضى، وغيرها.. وتكفى مراجعة ومتابعة سريعة لوسائل إعلامنا المتنوعة وبخاصة الالكترونية من: مواقع ومدونات وغرف دردشة ويوتيوب (وما يستجد)، ولا ننسى المداخلات التليفونية..الخ، لإدراك كيف غاب الاعتدال؟ وهل يمكن أن يتقدم مجتمع يقوم فيه البعض بنفى أو تهميش أو استبعاد البعض الآخر؟ والأهم لماذا غاب الاعتدال؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى أمرين: أن نطل إطلالة سريعة على تاريخنا، وفى ضوئها نقترب من حال مجتمعنا اليوم.
***
مصر الاعتدال.. حقيقة أم أسطورة؟
إذا بدأنا بالإطلالة التاريخية، سنعرف من كل من حاول الاقتراب من شخصية مصر عبر تاريخها مثل جمال حمدان من خلال مجلداته الألفية الصفحات «شخصية مصر»، ومحمد العزب موسى فى كتابه الهام «وحدة تاريخ مصر»، وصبحى وحيدة فى كتابه العمدة «المسألة المصرية»، ومحمد شفيق غربال فى كتابه الجامع الشامل «تكوين مصر»، وأحمد رشدى صالح فى كتابه العبقرى «الأدب الشعبى»، وآخرون، إنهم اتفقوا نتيجة أن مصر هى «الفصل الأول فى كتب التاريخ والمسرح الأول للحضارة الذى أقيم على أرض وادى النيل، حيث تعلم الإنسان الزراعة والكتابة والتفكير».. أن شهدت هذه الأرض ــ أرض وادى النيل ــ حلقات تاريخية متعاقبة، تحمل كل حلقة منها ملامح وسمات تميز كل منها، من دون تناقض، الأمر الذى بلور «مركبا حضاريا مصريا متعدد العناصر حيث كل عنصر ثرى بما لديه من مكونات حضارية، إنها «الوحدة والتنوع».
بيد أن «الوحدة والتنوع» لم تأت من فراغ وإنما هى نتاج عوامل حضارية دعمت ربط هذه الحلقات ببعضها البعض، فبات التاريخ المصرى سلسلة ممتدة الحلقات تعكس تفاعلا بين ما سماه العالم الجليل محمد شفيق غربال بـ«الاستمرارية والتغيير»، فى تاريخ مصر، إنها عبقرية مصر الحقيقية، حيث القدرة على استيعاب الجديد والتفاعل معه من خلال النواة الأساسية للثقافة المصرية والتى تحمل الكثير من المقومات الحضارية التى ترتبط فى المقام الأول بخصوصية مصر التى هى «هبة المصريين» بحسب غربال، ولذا فليس غريبا أن يتم تشبيه الشعب المصرى باستمرارية النيل. « فكما أن النيل قديم يشق نفس المجرى منذ آلاف السنين، إلا أن مياهه جارية ومتجددة، كذلك مصر عريقة قائمة بلا انقطاع، والحياة فيها مستمرة ومتجددة»، بفضل: النهر، والتجانس العرقى، والتماسك القاعدى بين المحكومين، والجغرافيا… الخ». «وفى هذا المقام يلفت محمد العزب موسى النظر إلى أن مصر والإنسان المصرى هما «حاصل ضرب لا حاصل جمع مختلف الحضارات والثقافات والأديان».
وعليه فإن ما بات يميز مصر عبر تاريخها هو أنها مركب حضارى يضم عناصر متعددة، ومن ثم فإن التوازن مطلوب بينها وأن الاعتدال ضرورة يتطلبها التواصل والتفاعل بين هذه العناصر.. وعليه ففى اللحظة التى يحاول فيها أى عنصر من عناصر المركب أن يكون منفردا دون الآخرين، أو مهيمنا على الباقين.. إنما يعنى الانحراف عن الاعتدال وتغييبه.. ويقول أحمد رشدى صالح: «إن الشخصية المصرية قد أصبحت اليوم مزيجا مركبا تركيبا جدليا، وتاريخيا لا تستطيع قوة أن تسحق عناصر منها أو تسلخ بعضها» لأن هذا يعنى تدمير الآخر الذى يتبعه تدميرا للذات.. أين تكمن الإشكالية إذن؟
***
اختلال ميزان العدالة
ما أردنا قوله هو أن الأصل فى الحالة المصرية حضاريا هو الاعتدال وأى خروج على ذلك يعنى فى الواقع أن تحتجب مصر إذا استعرنا تعبير أنور عبد الملك.. لكن هناك عوامل مجتمعية هى الفاعلة فى أن يكون الاعتدال حاضرا أو غائبا… والسؤال هو ما أهم هذه العوامل التى تعوق دون حضور الاعتدال؟
تقول القراءة التاريخية أنه متى اختل ميزان العدل فى المجتمع غاب الاعتدال… هذا هو درس التاريخ… أى أن هناك علاقة شرطية بين اختلال ميزان العدل وبين غياب الاعتدال فكلما شعر الناس بعدم المساواة تعصبوا ضد بعضهم البعض والنتيجة أن يتفكك المركب وأن تتنازع أطرافه بالطريقة التى نراها من حولنا…
إن الواقع الحالى يعبر عن هذه العلاقة بامتياز فغياب الاعتدال والميل إلى التطرف والتعصب والسجالات النافية لأطرافها إنما هى انعكاس لما يلى:
التفاوت الحاد بين المصريين والاختلال الحاد فى ميزان العدالة بينهم.
العدالة بمعناها الواسع: الطبقى والاجتماعى والجيلى والدينى والمذهبى والجنسى والفئوى والجهوى، وأيضا وبمعنى ما تأخر توفيرها لمن يستحقها، وذهابها لمن لا يستحق… كذلك، العدالة، كقيمة يثق كل مواطن مع شروق كل شمس أنها قائمة وقابلة للتحقق فورا.
ويؤكد كل من تناول قضية العدالة والمساواة من خلال العديد من الخبرات سواء فى واقعنا المصرى أو فى تجارب الآخرين أن التوازن الاجتماعى بين أفراد المجتمع لا يتحقق إلا بتوفر أمرين هما:
العدالة التوزيعية، والمساواة التامة.
ويقصد بالعدالة التوزيعية، تقاسم الثروة العامة للبلاد بشكل يحقق العدالة، أو بحسب أرسطو «توزيع الطيبات من الثروة والأوضاع الأدبية وسائر المزايا التى تقبل التقسيم بين أفراد المجتمع». وتوفير أنظمة تأمينية للمواطنين تشعرهم بالأمان الاجتماعى.
ويقصد بالمساواة التامة، ألا يشعر أى مواطن بأى تمييز من أى نوع ولأى سبب.. وأذكر هنا تعبيرا لطه حسين مفاده أن المساواة «لا تأتى إلا بتحقق العدل الاجتماعى بأدق ما يمكن أن يتحقق به العدل الاجتماعى، فلا يجوع إنسان ليشبع إنسان آخر، أو ليشبع إنسان يجوع إنسان آخر»… «مساواة تجعل الناس سواء أمام الثمرات التى قُدر للناس أن يعيشوا عليها»… المساواة فى القدرة على الاستمتاع بالحياة، والقدرة على تجنب الشقاء، وفى أن نشقى جميعا إذا لم يكن ُبدٌ من أن نشقى، وأن ننعم جميعا، إذ من حق الناس أن ينعموا».
***
الغياب سببه الاختلال
صفوة القول، إن غياب الاعتدال هو نتيجة مباشرة لاختلال ميزان العدالة فى المجتمع… ولن نستعيد الاعتدال إلا إذا توافرت العدالة والمساواة بين الجميع… فعندما لا تمد مظلة العدل ظلالها لتشمل الجميع، يبدأ كل فرد فى البحث عما يؤمن له العدل بغض النظر عن الآخرين.. حيث يبحث كل فرد عن خلاصه هو،وعليه يتم اللجوء إلى الدوائر الأولية للانتماء العشيرة والطائفة، والدين والمذهب طلبا للعدل، دوائر ما قبل الدولة، وعليه يتكون ما يطلق عليه أدونيس «الوعى ما قبل المدنى» الذى من ملامحه عدم الاعتراف بالمركب الحضارى متعدد العناصر، حيث كل عنصر هو وحده مركب فى ذاته يستحيل معه أن يتعايش مع الآخرين، وأظن أنه ليس صدفة أن يتعالى هذا السجال الدينى والمذهبى والشجار السياسى التجريحى فى وقت واحد.
وهكذا بدلا من أن يكون هدفنا هو النضال المشترك من أجل توفير العدالة، ينصرف كل منا لنفى الآخر… أى تغيير يمكن أن يحدث لمجتمع سبقته دول لن نقول الهند والصين واليابان، وإنما فيتنام وتشيلى والبرازيل… وهى مجتمعات تصالحت مع نفسها ومع تراثها ومع العصر واستطاعت أن تتقدم وتستعد لدخول نادى الأغنياء… ونحن بعد لا نقبل الاختلاف.. ولا نقدر التعددية.. ونمارس كل عنف متاح: رمزى ومادى فى مواجهة بعضنا البعض، ويجعلنا فى حقيقة الأمر نتعامى عن غياب العدالة… إنها المعركة الحقيقية.. والتى يجب أن تجمعنا على اختلافاتنا.. والقضية التى من شأنها أن تجعل رابطة المواطنة حقيقة ومن ثم تدفعنا للتقدم وتحافظ على المركب الحضارى بتعدديته وتنوعه وعلى التوازن بين عناصره.