عن التغيير (العصى)...

تحدثنا فى مقالينا السابقين حول انتخابات 2010، وما الجديد الذى يجب تتسم به هذه الانتخابات، من تفعيل حضور الأغلبية المنصرفة حتى لا تقتصر العملية الانتخابية على قلة ثروية وقلة دينية تحصل على الشرعية من قبل قلة ناخبة، كما لابد أن تكون الشرعية ضامنة للمساواة بين الجميع. وكنت أتصور أننى بدأت مبكرا الحديث عن هذا الاستحقاق، وقلت فى نفسى كلنا مستغرقون فى الحاضر وضروراته. وأثناء ذلك انطلقت أكثر من مبادرة تتحدث عن المستقبل السياسى لمصر وإمكانية الانتقال «الآمن» للمستقبل.. وظهر أن التغيير ضرورة وحاجة ملحة، وتشغل اهتمام الجميع من دون استثناء.. وجرت الدموية فى جسم الحياة السياسية المصرية.. ولكن.. وآه من لكن…

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

خطاب «النرجس»

بداية، اجتهد كثيرون بجدية فى التعاطى مع موضوع التغيير.. بيد أنه سرعان ما تحول الحديث الجاد إلى شجار سياسى يعتمد التجريح والتسفيه الشخصى، واختزال القضايا الحقيقية المتعلقة بحديث التغيير إلى أمور صغيرة إجرائية وتفصيلية. فمن جانب ركزت الحكومة على إنجازاتها، وفى الأغلب على البعد الكمى منها دون التطرق إلى الجودة والنوعية، وعلى الجانب الآخر ركز الاحتجاجيون على دحض دعاوى الفريق الآخر والتوحد بمطالب صعبة التحقيق. وهكذا ساد «خطاب النرجس» حيث لم يعد كل فريق يرى إلا ذاته بعيدا عن الواقع الذى نعيش فيه ــ فالنرجس بحسب أحد الشعراء ــ «ينظر إلى صورته فى الماء ويقول لا أنا إلا أنا».. فمن جهة ساد خطاب رسمى وفقا لذلك.. ومن جهة أخرى بات الفريق المعارض غير مدرك إلى أى مدى تتناسب مطالبه مع قدراته فى التعبئة والضغط ومن ثم إحداث التغيير المطلوب،…

ولعل نظرة سريعة على ما يقدم فى الفضائيات وما يكتب فى كثير من الدوريات يعكس حالة سجالية يقف فيها كل فريق فى موقعه..تبتعد بنا عن الحديث الجدى حول التغيير، الأمر الذى يعطى الانطباع أن التغيير بات «عصيا» فى مصر. بيد أن الأمل فى التغيير الأفضل الجدير بالمصريين دائما موجود. ولكن يبدو لى أن هناك حاجة إلى ما يمكن أن نسميه «فهما آمنا»: تستريح له لأنه دقيق وموضوعى، يدرك طبيعة اللحظة التاريخية ويوفر كل مقومات التغيير المطلوبة ــ قدر الإمكان ــ من حيث الرؤية الصادقة للواقع وما يعوق التغيير، وشروط وممكنات التغيير، والعناصر التى يتطلبها تحقيق التغيير ما يجعل التغيير حقيقة.

وفى هذا المقام لابد من استدعاء ما قاله أستاذنا طارق البشرى فى حديثه القيم لجريدة الشروق(الخميس 29/10/2009)، ففيه يقدم فهما آمنا وأمينا حول التغيير ومستقبل مصر. وهو فى ظنى من أهم ما قيل فى الأيام الماضية حيث تجد فيه خلاصة رؤيته وعلمه وقراءته لتاريخ مصر… ويحدد عناوين عديدة جديرة بالتفكير والنقاش ووضع التصورات حولها وجعلها موضع التنفيذ..

ـ ـ ـ ـ ــ

التغيير العصى له مفاتيح

إذا ما أردنا أن نحدد أهم العناوين الرئيسية التى جاءت فى رؤية أستاذنا البشرى، فى حديثه،فيمكن أن نقول: أولا يتحدث عن «موازين القوة الحالية فى المجتمع المصرى»، وثانيا «التعلم من أخطاء الماضى»، وأخيرا «التشبيك بين الحركات المطالبية بأنواعها»…

ففيما يتعلق بموازين القوة فى مصر، يقول البشرى: إن «الوضع السياسى ليس فيه تغيير حقيقى. بيد أن مصر ليست عاجزة عن التعامل مع الشئون العامة بشكل رشيد وجيد».. كما أن المسألة لديه تتجاوز الأشخاص إلى ماهية «موازين القوة الحالية فى المجتمع المصرى».. وعليه لا بد من التساؤل أين تكمن القوة ومن يمتلكها ؟

فالانفراد بالقوة يعنى السلطة المطلقة حتى «بالرغم من استعدادها إلى أن تسمع أى كلام فى الصحف كنوع من أنواع تهيئة المناخ كما لو كنا نعيش فى ظل نظام ديمقراطى»… والإعلام هو الشىء الوحيد الديمقراطى فى البلد لأنه لا يتعدى الكلام (ناس يتحدثون وآخرون لا يستمعون).. فلم «تتغير موازين القوة فى المجتمع. وما لم تتغير الموازين العامة بالشكل الذى يؤدى إلى ظهور عدة قوى متوازنة تكون قادرة على أن تحد من بعضها البعض لن تكون هناك إمكانية لتوقيف السلطة المطلقة».. وفى هذا السياق ينطلق البشرى من الواقع العملى والاجتماعى والموضوعى، فالتغيير يتطلب قوة تتوازن مع القوة الحالية.. وهى حقيقة جديرة بإدراكها على أرض الواقع.

وثانيا يقول كمؤرخ، عن علم ومعرفة، إن المعارضة قد أخطأت عندما طرحت شعارا أكبر من قدراتها على تنفيذه فى 2005، ويخشى أن تتكرر نفس الأخطاء. وهنا يرفض «شخصنة الأزمة»… فالقضية فيما أتصور أكثر تعقيدا من حصرها فى عملية تغيير أشخاص وإنما هو يتعلق بالرؤية التى تطرح حول مستقبل مصر والطبيعة الاجتماعية للقوة المنوط بها إحداث التغيير وتحيزاتها.

من جانب ثالث يؤكد البشرى، ضرورة التشبيك بين حركات الاحتجاج فى مصر والاستفادة من الخبرات المستفادة لكل منها وترجمة هذا الحراك إلى «تحرك سياسى وهو ما يمكن أن يدفع إلى أن يتغير الوضع كثيرا».. وبغير ذلك لن يحدث تغيير حقيقى.

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

مواصلة حديث التغيير

إن ما جرى فى مصر من حراك مجتمعى، لم يستطع تحقيق التواصل بين عناصره.. وهو ما أشرنا إليه فى مقالنا «الدورات الاحتجاجية فى مصر إلى أين» (مارس الماضى بجريدة الشروق)، حيث قلنا «لابد أن تلتفت القطاعات المحتجة على ضرورة عدم الاكتفاء بالحصول على مزايا آنية أو جزئية لأن ذلك لن يحقق التغيير المطلوب. فالمطالب الجزئية طلبا لامتيازات ــ لا حقوق ــ من السلطة، بعيدا عن توافر رؤية كاملة للتغيير، يعنى تكرار الدورات الاحتجاجية.. ولكنها احتجاجات ستظل على تخوم أو حدود المجال العام / السياسى ــ لا تتجاوزه ــ فمن دون الدخول إلى قلبه (المجال العام / السياسى) والتفاعل من خلال القنوات الشرعية وتفعيلها فى آن واحد سنظل ندور فى فلك الأوضاع القائمة، حسب طارق البشرى.. فبمجرد أن تحظى كل فئة بما تريد تنسحب فيبقى الأمر الواقع على ما هو عليه… وعليه يصبح المجتمع أقرب للمجتمع «الطوائفى» الذى تحتج فيه كل طائفة على حدة من أجل الحصول على امتيازات خاصة من ولى النعم، وهو أمر يتناقض مع فكرة الدولة الحديثة.

الإلحاح الدائم على حديث التغيير ضرورة مهما خفت أو تم حصاره، شريطة الأخذ فى الاعتبار ــ وهو ما أتفق فيه مع أستاذنا البشرى ــ على فهم موازين القوة الحالية، والتعلم ألا نرفع شعارات فوق قدراتنا، والحراك المشترك على قاعدة المواطنة فى سياق المجال العام / السياسى الجامع وليس الانتماءات الأولية.. بهذا وحده يظل حديث التغيير حاضرا بقوة..
فأثره، إذا ما استعدنا كلمات محمود درويش: مثل «أثر الفراشة لا يزول!»…فله القدرة أن: «يستدرج المعنى» والفكر والفعل، «فيتضح السبيل» إلى «إشراق جميل».. عندئذ لا يعود التغيير «عصيا».


طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern