إنها الفجوة

 (1) 
ليسمح لى القارئ العزيز، مع ارتفاع درجات حرارة صيف هذا العام، أن نتخفف من القضايا السياسية بعض الشىء، ونتحدث فى الرياضة.. لقد شاهدت أحد المسئولين عن فريق كروى مصرى عقب تعرضه لهزيمتين ثقيلتين، فى فضائية من الفضائيات، يصرح بأن على جمهور الفريق ألا يقلق..فثقل النتائج يعود إلى أخطاء فردية…

استوقفنى هذا التعليق، والحقيقة أننى لم أستطع أن استوعبه أو أفهمه… فمن المنطقى أن تكون هناك أخطاء فردية، ولكنها تظل فردية، وبحسب اسمها، فإنها متى حدثت، فإنها بالمعايير العلمية تكون فى الحدود المعقولة، وعليه يتعرض الفريق لهزيمة مقبولة بعدد قليل من الأهداف… لكن أن يصاب فريقنا فى كل مباراة من المباراتين بعدد وفير من الأهداف ويضيع مثلها نتيجة لأخطاء فردية تقترب من عدد أفراد الفريق، فهو أمر يحتاج إلى وقفة، فأظن أن الأمر أكبر بكثير من مجرد أن يكون أخطاء فردية…

وواقع الحال، الأمر لم يتوقف عند هذا التصريح، فهناك سيل من التصريحات كلها تصب فى اتجاه لا يجيب بشكل علمى عن الأسباب التى أدت إلى ما حدث لفريقنا…ولماذا باتت هذه النوعية من الهزائم تتكرر مع كل احتكاك مع فريق أوروبى منذ مباراة برشلونة الودية منذ سنتين…إنها الفجوة فيما أظن التى تزداد باطراد بيننا وبين الآخرين الذين يأخذون بالعلم، وبأسبابه…

إن ما حدث فى تقديرى يفتح الباب أمام كثير من الأفكار والانتباه إلى أوضاعنا وأحوالنا مقابل أوضاع وأحوال الآخرين وهو ما يجسده المجال الرياضى بامتياز… كيف؟

(2) 
يعد المجال الرياضى من المجالات التى تجسد إلى أى حد تعكس المباريات الرياضية دون غيرها، خاصة مع الفرق الأوروبية، بشكل مباشر وعملى وملموس أمام كل المشاهدين على اختلاف تعليمهم وثقافتهم مدى الهوة بيننا وبين الآخرين… فمن اليسير أن يدرك المشاهد البسيط من خلال المباريات الرياضية فورا الفرق فى المستوى الذى يعكس درجة التقدم بيننا وبين المتبارين معهم، أكثر من أى مجال آخر.

فمهما فصلنا كمثقفين وكتاب من خلال الكتابات إلى أى مدى يتقدم الآخرون فى شتى المجالات، ومن ثم محاولة استنهاض الهمم لدى ناسنا للحاق بالمتقدمين… فربما لا يستطيع كثيرون أن يدركوا قدر هذا التقدم وضخامته وقدر الفجوة التى باتت تباعد بيننا وبين الآخرين.. بينما تستطيع الرياضة فعل ذلك فورا.. وكلنا يذكر البطولة الأوليمبية التى أقيمت فى بكين العام الماضى، حيث منذ الوهلة الأولى، أى مع انطلاق حفل افتتاح البطولة تبين لكل رائى حجم الفجوة والتى حسمت بشكل نهائى مع الحفل الختامى للبطولة الكونية التى تنظم كل أربعة أعوام من خلال الإبداع البشرى والتقنى ومساحات الخيال المركب التى تم تقديمها بشكل غير مسبوق…

الفجوة التى تأكدت عمليا مع كل تنافس رياضى بين لاعبينا واللاعبين الآخرين فى الألعاب الأوليمبية المختلفة أثناء أولمبياد بكين خاصة (وهو ما استدعى تشكيل لجنة رئاسية للتحقيق فى أسباب التراجع والتى اختلف على صلاحياتها وعلى اسمها ولم تسفر عن شىء)، وفى المنافسات الأخرى اللاحقة مثل البطولة الكروية الأخيرة وقبلها بطولة القارات للأندية…

(3) 
لقد تبين لنا مع الوقت أن الفرق لم يعد محصورا فقط فى أن من نلاعبهم هم أكثر مهارة منا، وإنما الأمر تجاوز المهارة الفطرية للأفراد، إلى أن الرياضة باتت تقوم على العلم من الألف إلى الياء من حيث:

* الخطة الغذائية.

* الخطط التدريبية.

* ابتكار الأجهزة المناسبة الرقمية فائقة التقدم سواء المستخدمة فى التدريب أو المستخدمة فى اللعب فى حالة الألعاب الفردية.

* تصميم ملابس وأحذية وأدوات ملائمة على أسس علمية لكل لعبة، حيث يؤخذ فى الاعتبار الكثير من الأمور مثل: المقاومة للرياح وللمياه، وإلى أى مدى تعطل أو تيسر الأداة المستخدمة اللعب ومن ثم الفوز، خاصة أن الفوز يحسب فى ألعاب كثيرة، وبخاصة الفردية بعشور/ كسور الثوانى.

* هذا بالإضافة إلى الانضباط والنظام الذى تفرضه اللوائح، حيث لا مجال لأى تهاون، كل ما سبق يتعرض له اللاعب منذ الطفولة… بالإضافة إلى أن كل دولة أصبحت تحاول أن تبتكر أساليب خاصة بها وتقنيات فى الأداء تميزها عن الآخرين فى ضوء تأهيل جسمانى وعضلى ونفسى وذهنى غاية فى التعقيد، لقد باتت الدول تجتهد فى ابتكار الطرق التى تسجل باسمها تماما مثل التكنولوجيا..وهنا نتذكر كيف استطاعت الصين أن تتقدم فى لعبات لم تكن تاريخيا متميزة فيها مثل: رفع الأثقال، والغطس، والسباحة.. لم يكن ذلك نتيجة لتوفيق من القدر أو الحماس الزائد، أو.. وإنما بالأساس من خلال ذهنية ابتكارية نجحت أن تسجل طرقا جديدة باسمها، فيقال المدرسة الصينية فى لعبة كذا…

(4) 
وعليه باتت الرياضة علما له قواعده ومقنناته متى توافر فإنه يضمن للفرق وللاعبين القدرة على التميز، وعلى الاستجابة إلى أى ظرف مستجد سواء لعب اللاعب مع فريقه أو انتقل إلى فريق آخر، أو تغيرت الظروف بشكل عام..

وفى هذا السياق، فإن الحجة التى قالت إن الهزيمتين الثقيلتين كانتا بسبب كثرة اللاعبين المنضمين حديثا إلى الفريق وحاجتهم إلى وقت لكى يتأقلموا معه، تصبح لا وجاهة لها، عندما نرى أن الفريقين الآخرين اللذين ألحقا الهزيمة بفريقنا لديهما نفس الوضع… بيد أننا نجد أن اللاعبين الجدد فى هذين الفريقين لديهما القدرة بسبب الإعداد العلمى المبكر لهم على:

الاستجابة السريعة لخطط فريقيهما الجديدين، وتلبية ما يطلب منهم من مهام، وتصبح مهمة المدرب فقط هى تهيئة المناخ لإتمام التجانس بين الجدد والقدامى فقط لا أكثر..

إن الفجوة لا تسد بامتلاك الأشكال الحداثية من دون مضمون قادر على تحقيق التقدم… لا بأس أن تمتلك النوادى فضائيات مثل النوادى العالمية، ولكن ماذا تبث: تصفية الحسابات بين الإدارة القديمة والجديدة، أو لنقل مباشر لطقوس ذبح ذبيحة لفك «المعكوسات»، وهكذا… إن الهزائم فى ذاتها ليست عيبا، بيد أنها فى واقع الحال تكشف عن الكثير حول أوضاعنا وأحوالنا ومنظومتنا العقلية فى تبرير الهزيمة وتفسيرها وكيفية تجاوزها.

إنها نفس الفجوة فى واقع الحال التى تزداد بدرجة مطردة، فى شتى المجالات الأخرى من تعليم وبحث علمى وصناعة ومواصلات وصحة وخدمات وفن و…، إلخ، والتى تحتاج لتجاوزها خلخلة الجمود المجتمعى وإعادة بناء مجتمعية على أسس مختلفة وتكوين عقل مبدع لا متبع…

هل قلت إننى أتخفف من السياسة.. هل يا ترى قد أفلحت؟…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern