لا اصلاح بدون المواطنة

أصبحت هناك ضرورة ملحة ولاشك لتفعيل الحياة السياسية المصرية، بقيم وممارسات وإجراءات تتناسب مع الحاجة إلى التقدم واللحاق بتجارب سياسية قطعت أشواطا فى هذا المجال من جانب، كذلك لمواكبة متغيرات مطردة لا يمكن مواجهتها بمنطق “سبعينى. وأقول “سبعينى”، لأنها الحقبة التى شهدت ميلاد التجربة الديمقراطية الثانية فى مصر بيد أنها كانت تجربة فوقية بكل ما تحمل الكلمة من معنى. وقد جرى ذلك بحسب عزمى بشارة خلافا للنظريات حول الانتقال للديمقراطية فى العالم الثالث.

وقد كانت السلطة هى مصدر “الديمقراطية” لا العكس أى الشعب ومن ثم لحقت بالتجربة الكثير من التعثرات التى أدت إلى بروز كثير من الظواهر التى يبدو أنها باتت راسخة فى البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتمثل عوائق حقيقية لأى تقدم ديمقراطى، أو إصلاح سياسى حقيقى. وتكفى الإشارة إلى الكثير من الظواهر التى ترافق العملية الانتخابية من حضور قوى “العزوة” و “العائلة”، وغير ذلك والتى تعنى عودة- لا ريب فيها- إلى ما قبل الدولة الحديثة وردة على التجربة الديمقراطية الآولى التى عرفتها مصر فى العام 1866 من خلال تجربة مجلس شورى النواب، وهو ما وصفناه مرة بالارتداد السياسى، ولا نفرق هنا بين حزب او أخر، بل يستوى الجميع فى ذلك.

وفى المقابل لحالة الضمور السياسى وللعملية الديمقراطية، نجد ازدهارا لقيم ثقافية منافية للديمقراطية حيث العودة إلى مفاهيم الأبوية، بما يترتب عليها من ممارسات حيث العودة إلى الكبير لحل مشاكل الأفراد فى الحياة اليومية، الأمر الذى يعنى “اللامؤسسية”، فمن يصل إلى الكبير بأى طريقة يستطيع أن يحل مشكلته، سواء كان له حق أو لا، وسواء تسمح القوانين أولا. لذا نجد كثيرا من المؤسسات فى مصر تدار بمنطق أبوى وليس وفقا لمعايير موضوعية حتى المؤسسات الاقتصادية التى نشأت مع المرحلة الاستثمارية الانفتاحية ومن المفترض أنها مؤسسة تأسست حديثا، فإننا نجدها سرعان ما تستسلم للقيم الثقافية السائدة.

صفوة القول أن الإصلاح السياسى المنشود ليس قرارا وإنما هو ممارسة على أرض الواقع تتجاوز القرارات الإدارية والأشكال التنظيمية والأطر الهيكلية المزدحمة بالعبارات المميزة أو القوانين أو الإجراءات اللائحية، إلى غير ذلك.
فى تقديرنا أن أحد المداخل الأساسية لإنجاز الإصلاح السياسى هو الاهتمام بقضية “المواطنة”، ولا أقصد بالمواطنة ماهو شائع عنها بأنها الانتماء والولاء للوطن فكلاهما نتاج للمواطنة. المواطنة لدينا تعنى حركة الإنسان فى حياته اليومية مشاركا ومناضلا من أجل حقوقه بأبعادها المدنية والاجتماعية والسياسية والثقافية على قاعدة المساواة مع الآخرين من دون تمييز، وواقع يعكس أن لهذا المواطن نصيبا فى الموارد العامة للوطن.
إذن دعم المواطن هو المدخل، وإن شئنا جوهر عملية الإصلاح، السياسى، فبغير ذلك لن يكون لأى إصلاح معنى، فالانتخابات الأخيرة على سبيل المثال لم تزد نسبة المشاركة فيها على 20%. وعليه فإن الاهتمام بتكريس ودعم المواطنة يمثل ضمانة حقيقية لأى إصلاح سياسى، بيد أن ذلك يحتاج إلى ما يلى:

أولا: إعادة دمج المواطن فى المجتمع السياسى:
القراءة السريعة لحركة الإنسان المصرى فى حياته اليومية تقول أنه يتحرك باعتباره منتسبا للمجتمع السياسى من جهة، ومنتميا حتى النخاع لأى جهة خارج المجتمع السياسى الشرعى تستطيع أن تحل مشاكله. إنها عودة بحسب “هوبز” إلى”حالة الطبيعة”، وهى حالة من الفطرة من حيث الدوافع والمواقف وردود الفعل. فالإنسان فى رأيه ذنب لأخيه الإنسان، وعليه فإنه لا توجد بالتالى معايير وضوابط، أو بلغة أخرى قوانينا بل يكون لكل واحد ما يستطيع أن يأخذ فقط، لذا يتحرك كل إنسان لإنجاز ما يخصه بحسب اتصالاته أو اكتشافه لثغرات قانونية أو اللجوء لمن يقدر على “التخليص”، وهكذا.
إن تجاوز ما سبق يحتاج إلى عقد اجتماعى.، جديد بحسب روسو، حيث تتوافر مساواة شرعية وأخلاقية بدل التفاوت الموجود فى الحالة الطبيعية ليصبح الجميع متساوين بالاتفاق. إن دعم فكرة المصلحة المشتركة وتقديم النموذج العملى على أهميتها هى الدافع لتنمية الاتفاق بين الأفراد. إن تعارض المصالح الفردية فى حالة الطبيعة هو الذى جعل إنشاء المجتمعات ضروريا بالمعنى السياسى، فالعقد الاجتماعى هو شكل من اشكال الاتفاق بين الأفراد/ القوى بهدف حماية المصالح الجزئية لتصب فى إطار المصلحة العامة.
بيد أن هذا الاتفاق لا يطغى على حرية كل فرد/قوة والحصيلة هى تشكل المجتمع السياسى/ الجماعة.
السياسية التى تتكون من دولة من جهة ومن جماعة سياسية تضم المواطنين، شريطة ألا يجور أى طرف على الآخر، وانما تكون العلاقة علاقة تفاعل ومشاركة. فالدولة فى النهاية تعبير عن إرادة المواطنين. إذا ضمن المواطن توفر مجتمع سياسى سيكون حاضرا أما غياب المجتمع السياسى فيعنى انصراف الأفراد إلى حياتهم ليعودوا يتحركون بمعايير- تجاوزا- الحالة الطبيعية والتى هى حالة فوضى بدرجة أو أخرى.
مما سبق فإن إعادة بناء المجتمع السياسى بالتوافق بين الجميع سوف يكون المدخل لدمج الأفراد المواطنين فى هذا المجتمع لأن ذلك يعنى أنه لا حركة لهؤلاء المواطنين خارج المجتمع السياسى.

ثانيا: من المواطن المقيم إلى المواطن المشارك والفاعل:
بالعودة إلى أثينا القديمة سوف نجدها قد عرفت المواطنة، وان كان بشكل غير مكتمل، وفى إطار النخبة، فالمواطنة الأثينية اقتصرت على الجانب السياسى المباشر من خلال النقاش ولم تتجاوز دائرة ضيقة تتوافر فيها شروط محددة، فالنساء والعبيد لم يكن لهم حق المواطنة، وكان هناك من يمنح حق المواطنة باعتباره مقيما Denizen من دون أن يترتب على ذلك أية حقوق من أى نوع.
تعكس نسب المشاركة فى الانتخابات كذلك أشكال المشاركة المختلفة. إن المواطن لدينا أقرب إلى المواطن المقيم Denizen أى أنه يتمتع بالإقامة الكاملة من دون أن يبادر بالمشاركة والتفاعل مع ما يدور حوله بشكل منظم أو ينخرط فى الحياة السياسية بأى صورة. بالطبع ليس السبب أن هناك محاذير أو قيودا تحول دون ذلك بمعايير أثينا وروما وإنما بإرادة حرة تماما. لذا فإن من المهام الأساسية لأى إصلاح سياسى دفع المواطن إلى أن يكون مشاركا وفاعلا ولن يتأتى ذلك بغير تحسين فرص حصول المواطن على حقوقه وإتاحة مساحات ممكنة كى يمارس أدوارا محاسبية ووقابية حول موضوعات تمس حياته.

فمن غير المعقول أن يكون المواطن مطالبا بتأدية ما عليه من واجبات وأن يثبت مواطنيته من دون أن يحصل على أى حقوق، فحقوقه دائما مؤجلة. ففى هذا المقام وبحسب فقهاء المواطنة لابد وأن يتسم الأمر بالتبادلية Reciprocity حقوق وواجبات المواطن فى مقابل حقوق وواجبات الدولة. وعليه يتولد الحافز لدى المواطن للمشاركة والتفاعل فى الحياة السياسية.

ثالثا: تفعيل المواطنة القاعدية Grass Root Citizenship:
من القضايا الهامة التى كشفت عنها الممارسة السياسية على مدى عقود، هو أن دائرة العمل السياسى غير قادرة على استيعاب فئات نوعية وشرائح اجتماعية وأجيال عمرية إلى المجال العام. فباتت دائرة العمل السياسى قاصرة على فئات وشرائح وأجيال بعينها متقاربة فى المصالح والأعمال والانتماء الاجتماعى بحيث تكاد تكون هذه الدائرة شبه مغلقة، ومن ثم فإن المشاركين من خلالها يصبحون هم المواطنون، وعليه فإن مستوى المواطنة يكون: أفقيا- نخبويا، ونطاقها مقصورا على عناصر بعينها. والنتيجة العملية لذلك هى استبعاد ربما يكون غير مقصود لفئات وشرائح وأجيال تحتل مواقع أدنى فى السلم الاجتماعى والاقتصادى والعمرى، وعليه فإنه من الأهمية بمكان توسيع نطاق المواطنة من جانب، كذلك مستواه، أى بالتوجه رأسيا فى جسم المجتمع. فمن المهام الضرورية توسيع دائرة المشاركة من دون استثناء ومن دون اعتبار لثروة أو مكانة، خاصة وأن القراءة السريعة للانتخابات البرلمانية فى عامى 1995 و 2000 تقول أنها انتخابات الأثرياء.

وهنا ينبغى التذكير بأن الديمقراطية تعنى إتاحة الفرصة للجميع بنفس الحقوق، فالمواطنون من حقهم أن يكون لهم نصيب فى العملية السياسية بكل مراحلها. صحيح أن مفهوم المواطنة تاريخيا يعنى قدراتها بالوضع الاقتصادى للأفراد وبمدى ما يملكون. فالفرد الذى لا يملك شيئا ولا يدفع ضريبة ليس مواطنا، لذا لم يكن غريبا أن البعض قد طابق بين “المواطن” و “دافع الضرائب ” Tax Payer بيد أنه مع التطور الديمقراطى اتسعت دائرة المشاركة وأخذ مفهوم المواطنة يتطور ليتجاوز البعد الاقتصادى إلى الاجتماعى والثقافى والمدنى، بالإضافة إلى الجانب السياسى. وفى نفس الوقت اتسعت الحياة السياسية لكافة المواطنين، فكان الاهتمام الرأسى بالجسم الاجتماعى والاهتمام بالمواطنة فى بعدها القاعدى. وتجدر الإشارة هنا أن ثورة 1919 قد استطاعت أن تحقق التفافا قاعديا حول الثورة فى بعدها الوطنى أى فيما يتعلق بالاستقلال كذلك فى بعدها الاجتماعى من خلال الحفاظ على المصالح الاقتصادية الوطنية، لذا نجد الباشوات والفلاحين، الرجال والنساء، المسلمين والأقباط، حاضرين بقوة، حيث امتدت المواطنة من التنمية إلى القاعدة. وإلى أن جاءت ثورة 1952، ان تحققت المواطنة فى بعدها الاجتماعى دون السياسى.

رابعا: المواطنة تضمن عدم الارتداد السياسى لدولة ما قبل المواطنة:
إن المواطنة هى تعبير عن لحظة حاسمة بالنسبة للإنسان- الفرد فى داخل الجماعة البشرية التى يتحرك فى إطارها ليكون “مواطنا” يمارس المواطنة فى إطار جماعة وطنية واضحة المعالم السياسية تماريممها مق خلال هياكل مؤسسية وتعكس لحظة التحول الحاسمة هذه تجاوزا للؤشكال الأولية للتجمع البشرى: الطائفة، العائلة، العشيرة.. الخ. حيث تصبح المصلحة المشتركة هى المعيار الرئيسى الذى يحكم حركة الجماعة، مما يدعم التكامل بين مكونات هذه الجماعة. إن المصلحة المشتركة فى هذه الحالة تعكس تحولا نوعيا فى طبيعة هذه الجماعة حيث التحول من مجموعات نوعية إلى جماعة وطنية واحدة تتكون من مواطنين لا رعايا Subjecthood. فغيبة المجتمع السياسى لحساب المجموعات النوعية تعنى بقاء الأفراد فى حكم.
الرعايا لمن يقؤمون بحكم هذه المجموعات، بينما تبلور المجتمع السياسى يعنى أن الأفراد باتوا مواطنين.

إذن، أصبح المواطن هو موضوع الخطاب والفعل السياسى فى إطار القانون الذى ينظم حقوق وأفعال هذا المواطن فى المجال السياسى الذى يضم: الدولة والمجتمع المدنى فى إطار الوطن الواحد. وعليه فإن التراجع عن هذا الإنجاز يعنى العودة إلى دولة ما قبل المواطنة حيث حقوق الطوائف، والأقليات، والملل، فالمواطنة تجب ذلك حيث يتمتع كل المواطنين بالحقوق نفسها وعليهم أن يفوا بالالتزامات نفسها، ويخضعوا للقوانين السائدة، دون أى اعتبار للعنصر بمفهومه الاجتماعى أو الجنسى، أو للانتماء لجماعة تاريخية أو عرقية، أو للدين أو لميزات اجتماعية أو اقتصادية، فهم جميعا يستوون كمواطنين. وعليه فإن الحرص على المواطنة يدعم عدم الارتداد إلى دولة ما قبل المواطنة، حيث تبرز الأشكال الأولية للتجمع البشرى. ولا شك أن المصريين قد ناضلوا على مدى زمنى طويل من أجل الدولة الحديثة ومن أجل المواطنة، نعم هناك انقطاعات نكن مهمتها دائما أن نتواصل مع التراكم التاريخى. فاذا كان فى تقديرنا أن المواطنة قد مرت بمراحل خمس منذ محمد على وإلى الآن، فعلينا دراسة كل مرحلة على حدة، وندرك نقاط القوة وندعمها ونستبعد ما نعتبره معوقا لمسيرة المواطنة، وكيف أن الابتعاد عن العناصر الآربعة التى نحاول إبرازها هنا تعنى تعثر مسيرة المواطنة، ومن ثم الاصلاح السياسى والعملية الديموقراطية برمتها. (وربما تتاح لنا الفرصة لاحقا لشرح هذه المراحل: مرحلة بزوغ المواطنة مع محمد على ومرحلة تبلور المواطنة مع ثورة 1919، ومرحلة المواطنة المبتسرة، أو فى بعدها الاجتماعى مع ثورة يوليو 1952، وتغيب المواطنة فى السبعينيات، وأخيرا محاولة استعادة المواطنة)

وبعد، يمكن القول أن المواطنة فى تقديرنا تمثل شرطا أساسيا للديمقراطية ولأى اصلاح سياسى وكما يقول أحد الباحثين
Keith faulks citizenship can be seen as a precondition of Democracy فالديمقراطية بدون ممارسين- مواطنين لا تستقيم، وبالتالى لابد من توفرهم وإعدادهم وتشجيعهم. المواطنة إذن هى القاعدة التى ينطلق منها أى إصلاح سياسى، والمواطنون هم العناصر الحية والفاعلة لهذا الإصلاح، ويأتى بعد ذلك الحديث حول تفاصيل الإصلاح من حيث القوانين المطلوبة والإجراءات اللازمة، المواطنون أو البشر أولا، إعادة دمجهم فى المجتمع السياسى، وتنشيط مواطنيتهم وإتاحة الفرصة للمواطنين فى المستوى القاعدى للمشاركة، وأخيرا دعم ثقافة المواطنة لقطع الطريق على أى ارتداد سياسى، ولتحقيق ما سبق يحتاج الأمر إلى تغيير جذرى فى برامج التنشئة ولمنظومة القيم الثقافية والاجتماعية السائدة وإلى المزيد من المبادرات العملية من كل الأطراف على المستوى الحقوقى، مع ملاحظات أن هناك علاقة جدلية وشرطية بين دولة مزدهرة Healthy Polity ومواطنية فاعلة Acitive citizenry وربما يكون لنا حديث أخر حول الأمور العملية، وكيف يمكن تحقيق العلاقة سابقة الذكر.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern