هامش دراسة في التطور التاريخي للمساواة من منظور المواطنة...

في الحلقة الماضية من دراستنا أشرنا إلي أن أزمة 1929الاقتصادية العظمي،قد أطلقت حوارا كونيا ممتدا لم يتوقف إلي يومنا هذا حول موضوع “المساواة”..وكان السؤال المحوري الذي فرض نفسه علي الجميع من مفكرين واقتصاديين وسياسيين ومواطنين هو: ما هي أسباب المساواة بين البشر؟..وبخاصة الاقتصادية والاجتماعية..

وهل يمكن سد الفجوة بين التفاوت الفج وغير الانساني الذي أظهرته أزمة الكساد الكبير ..وهو ما لفت النظر إلي بعدين جديدين للمواطنة هما: الاقتصادي والاجتماعي بالإضافة إلي السياسي والمدني.. وأن المواطنة الحقيقية لا يمكن أن تتحقق دون اكتمال عناصرها، وعدم الاكتفاء بالسياسي والمدني دون الاقتصادي والاجتماعي..وعليه ذكرنا المراحل التي مرت فيها حديث المساواة من خلال المواطنة وكيف أنها مرت في أربع مراحل منذ 1929 وإلي 2009وذلك كما يلي:
× أزمة 1929كانت مرحلة البحث عن المساواة،
× من 1945إلي 1979مرحلة المساواة للجميع،
× من 1979إلي 2009 أثر الليبرالية الجديدة في تغييب المساواة،
× جدل ما بعد 2009وإعادة طرح السؤال :أي مساواة يريدها العالم وبالتالي نحن؟..

(1)
ظل نهج “المساواة للجميع”، الذي طرحه توماس همفري مارشال (المنُظر الأول للمواطنة) هو الملهم لكثير من الأنظمةالسياسية في محاولة لعلاج التفاوت بين البشر، خاصة اجتماعيا واقتصاديا..ويتمحور هذا النهج في فكرة تعد من أهم ما أضافه مارشال للفكر الإنساني ـ مؤسسا بذلك لأدبيات المواطنة ـ، تقول:”بأنه إذا كانت بعض الأيديولوجيات والأنظمة ترفض المساواة الطبقية فإن هذا لا يعني إبقاء اللامساواة الاجتماعية/الاقتصادية قائمة”..وتعد هذه الفكرة من أهم ما طرح مارشال..ووفق ما سبق بدأت المجتمعات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية الأخذ بسياسات اجتماعية تحاول الاقتراب من المساواة قدر الامكان لتحقيق ما عرف بنموذج “دولة الرفاهة”، حيث المواطن هو موضوع وهدف كل تنمية “؛
وعليه اخذت الحكومات الأوروبية وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية تطبق هذا النموذج من خلال ثلاثة أنظمة وذلك كما يلي:
1) النظام الديمقراطي الاجتماعي،
2) النظام المحافظ الكوربوراتي،
3) النظام الليبرالي،
وطبقت أنظمة العالم الثالث ما عرف، رابعا، بالنظام “الإعاني”..
وظلت المجتمعات بدرجة أو أخري في الفترة من 1945إلي 1979تحاول أن تطبق نهج “المساواة للجميع”..إلي أن جري الانقلاب الأبرز في القرن العشرين وذلك بتطبيق السياسات النيوليبرالية..فماذا جري؟

(2)
كانت هذه السياسات تناقض تماما المبادئ الأساسية التي تم التوافق عليها لتوفير البرامج الرعائية والتأمينية القادرة علي تأمين المساواة للجميع ومن ثم المواطنة للمواطنين علي اختلافهم..
فبعد أن كانت الخدمات التعليمية والصحية وكذلك البرامج التأمينية مقدمة للجميع بعيدا عن قوانين السوق ـ بدون تمييز بين مواطن وآخر، بدرجة أو أخري ـ..فإنه بعد تولي تاتشر وريجان سدة الحكم في انجلترا(1979) وأمريكا (1980)، تم الأخذ بالسياسات النيوليبرالية والتي تقوم علي الأخذ “بالنسق السلعي”..وعليه كان من الصعوبة بمكان الاستمرار في تقديم هذه الخدمات دون مقابل مالي، ومن ثم خضعت الخدمات لآليات السوق وتم اعتبارها “سلعا” تقدم نظير أجر لمن يريد الحصول عليها شأنها شأن المنتجات الصناعية والأجهزة والبضائع…الخ. فلقد كان المنهج النيوليبرالي يري أن رفاهية المواطنين علي اختلافهم ستتحقق تلقائيا وأن السوق قادرة “حتما” علي ضبط أي خلل..لقد ربطت الليبرالية الجديدة ربطا شرطيا بين “النمو وبين تحقق الرفاهة وزيادته وخلق فرص العمل”..وهو الأمر الذي لم يحدث، بالرغم من الازدهار الرأسمالي الذي تم مع بدء تطبيق السياسات النيوليبرالية.. بيد أن عمر هذه الازدهار كان قصيرا..حيث سرعان ما توالت الأزمات الاقتصادية العالمية الحرجة وذلك كما يلي:
× أزمة 1987التي تمثلت في إفلاس العديد من صناديق الادخار الأمريكية الموظفة في مجال العقارات، حيث تم إغلاق 650 صندوق ادخار وهو ما اُعتبر كارثة بكل المعايير للنظام الاقتصادي الأمريكي آنذاك..ففي إثرها انحدر سعر “داو جونز” انحدارا بلغت نسبته6,22
(أكتوبر 1987).
× 1990الأزمة المصرفية السويدية.
× وبعدها عرفت البلدان الأوروبية ما أطلق عليه “الفقاعة العقارية”ما أدي إلي خلخلة الوضع الاقتصادي لكثير من البنوك في كل من إسبانيا، والسويد، وبريطانيا، وفرنسا..حيث قررت حكومات هذه البلدان وضع هذه البنوك تحت وصايتها ومنح ضمانات للقروض وإحداث أنظمة أطلق عليها أنظمة تنقية لإزالة الديون الموبوءة.
× الأزمة اليابانية التي امتدت من 1995إلي 2000.
× الأزمة الآسيوية الشهيرة التي جرت ما بين عامي 1997و1998 .
إذا، أدي تطبيق السياسات النيوليبرالية إلي أزمات متتالية..كما لم تتحقق الوعود التي طالما وعد بها أنصار هذه السياسات..وكانت “اللامساواة” هي النتيجة التي وصل إليها العالم وتحديدا الاقتصادية والاجتماعية وبخاصة في أوساط الشرائح الاجتماعية الوسطي والدنيا..كيف؟

(3)
لقد أدت هذه الأزمات المتتالية ـ بحسب جاك أتالي ـ إلي “تفاقم الفوارق الاجتماعية”بشكل متضاعف، ففي سنة 1998كان 7% من سكان الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر ثراء يحصلون علي ما يزيد علي 15% من الدخل الوطني، أما في سنة 2008 فأصبح 1% فقط هم الذين يحصلون علي ما يقرب من 20% من الدخل القومي..وهو ما يعكس بشكل واضح كيف أن السياسات النيوليبرالية قد أسهمت في اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء خلال عشر سنوات..كما تشير الأرقام أيضا إلي أن 50% من الأسر الأمريكية لا تسيطر إلي علي 8,2 من الممتلكات..وتدل كل المؤشرات الخاصة بالنمو الاقتصادي علي مدي التأثر الذي تأثرت به الفئات الوسطي، وكان الحل السهل هو زيادة الاقتراض لتعويض نقص الدخول لهذه الفئات..
صفوة القول كان “اللاتكافؤ” هو السمة “الغائبة” بين الشرائح الاجتماعية من جراء الليبرالية الجديدة…
رافق ما سبق وكما أشار المرجع المهم الصادر في ألمانيا العام الماضي”انهيار الرأسمالية: أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود” (تأليف أولريش شيفر)..مجموعة من الممارسات تمت وفق الليبرالية الجديدة أسهمت في تفاقم الأزمة بالنسبة لكثير من الشرائح الاجتماعية وزيادة الإحساس بتداعياتها ، كما أدي إلي “تغييب” تام للمساواة، من هذه الممارسات نذكر ما يلي:
× تجريد النقابات العمالية من سلطانها الحمائي والدفاعي،
× زيادة الامتيازات والإعفاءات الضريبية للأغنياء ،
× التوسع المبالغ فيه وغير المدروس بعناية لسياسة الخصخصة والتي أدت إلي آثار جانبية كثيرة تتم مراجعتها في كثير من البلدان،
× وأخيرا التراجع الشامل عن تأمين سياسات اجتماعية عادلة للشرائح الاجتماعية الوسطي والفقيرة.
والمحصلة أن صفت السياسات النيوليبرالية كل منجزات دولة الرفاهة..فما تم اكتسابه علي مدي عقود بعد الحرب العالمية الثانية تحت مظلة المساواة لجميع المواطنين من خلال رعاية متكافئة بين جميع المواطنين قد أصابها عطب..وحدث التفاوت الحاد..الأمر الذي دفع مؤلفا كتاب”فخ العولمة” بوصف الكوكب بأنه يعيش مجتمع “الخُمس”، أي أن 20 % من الكوكب هم الذين يستأثرون بالثروة علي حساب 80 % من إجمالي السكان أو أربعة أخماس البشرية..بالإضافة إلي اختلال التوازنات الاجتماعية بصورة غير مسبوقة والأهم هو تبيين أن كثيرا من السياسات الاجتماعية وبخاصة في مجالات التعليم والصحة وخدمة المسنين الخ، تفتقر إلي العدالة المطلوبة..

× أي أن اللا مساواة الصارخة والتفاوت الحاد بين البشر هو ما آلت إليه الأحوال..أو لنقل تغييب المساواة بفعل فاعل:الليبرالية الجديدة..
وعليه تجددت اللامساواة مرة أخري (كما حدث عقب أزمة 1929)..بيد أن اللامساواة هذه المرة نجدها وقد طالت ليس فقط العلاقة بين أصحاب العمل والعاملين ولكن امتد الأمر إلي شرائح نوعية كثيرة، حيث تداخل الطبقي مع الجيلي مع النوعي مع الاثني مما أثر في الوضعية المواطنية العامة لمواطني المنظومة الرأسمالية بشكل مركب ومباشر في آن واحد..من جانب آخر، امتدت الأزمة ـ كما أشرنا مرة ـ لتشهد تراجعا أكيدا في:
مستويات الأمان الاجتماعي والعدالة والمساواة، وتعرض فئات وشرائح نوعية في المجتمع للتمييز مثل:الأطفال، وكبار السن، والمجموعات الاثنية المختلفة، وذوي الاحتياجات الخاصة..الخ…وحاجتهم لدخول معقولة، وبرامج صحية متاحة.
وأخيرا ما يترتب علي ذلك من مشاركة وتمكين واندماج في المجتمع…

وكان لسان حال كثير من المعنيين بهذه المسألة هو كيف يمكن أن “يتصف الاقتصاد بالإنصاف والعدالة الاجتماعية”..ويتم تبني سياسات اجتماعية تجسد المساواة بين المواطنين اقتصاديا واجتماعيا..
وكان السؤال الأساسي الذي تم طرحه لتجاوز التغييب ـ الذي يبدو أنه كان قسريا للمساواة ـ هو أي مساواة نريدها؟
إنه السؤال الذي يشغل بال العالم الآن ونجده في العديد من الكتابات المعتبرة نلقي الضوء عليها في الحلقة المقبلة..
الحلقة الرابعة: الجدل الدائر الآن حول تحقيق المساواة

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern