مرة أخرى «شرعية الإكراه»

فى الأول من يناير الماضى، كتبت فى نفس هذه المساحة، مقالاً بعنوان: «شرعية الإكراه»، حاولت أن أصف فيه أداء السلطة آنذاك.. والتى وصفتها فى دراسة لاحقة ـ بالسلطة الضيقة والمغلقة ـ (راجع دراستنا: المواطنة بين السلطة المغلقة/ الضيقة والمجتمع المفتوح/ الرحب والمتجدد).. كتبت هذا بمناسبة الإعلان الدستورى الذى صدر فى 21 نوفمبر الماضى، والذى وصفته بالاستبدادى، ومثّل انحرافة فى مسيرة التحول الديمقراطى ـ الذى كان فى الأصل متعثراً ومليئاً بالأخطاء

ـ ولكنها أخطاء كان يمكن تصحيحها.. إلا أن هذه الانحرافة كانت خطيئة بكل المعايير.. حيث جسدت حالة تاريخية تعود بنا إلى الدولة العباسية.. فيها السلطان سلطته مطلقة وحيث الدولة لا تعرف الفصل بين السلطات، فبالرغم من وجود قاضى القضاة، والوزير الأول.. إلخ، إلا أن فكرة الفصل بين السلطات لم تكن موجودة.. وهو ما كان يعبر عنه الماوردى فى الأحكام السلطانية «بأنه لا خيار عن السلطة المطلقة، إذ دونها لا يوجد سوى الفوضى واللا سلطة».. وهو ما تم العمل عليه فى الواقع..

وتمت الاستعانة بقوى العنف لدعم هذه السلطة المطلقة من جانب والضيقة من جانب آخر لأنها لا تعبر عن مصالح جموع المواطنين بقدر ما تعبر عن مصالح أعضاء الجماعة.. لذا تحركت جموع المواطنين على اختلافها لمواجهة شرعية الإكراه وسلطتها الضيقة.. فى هذا السياق ربما يكون من المفيد استعادة هذه السطور مرة أخرى.. للتاريخ وللمستقبل أيضا.

(1) «الرضا العام والقبول»، هما أساس شرعية سلطة بعينها بأن تمارس الحكم فى لحظة تاريخية معينة. وهذه الشرعية تنطلق من قناعة المواطنين بأحقية هذه السلطة فى أن تمارس الحكم وفق ضوابط عقلانية وموضوعية يتم الاتفاق عليها من قبل كل ألوان الطيف الوطنى. وما يجعل كل من الرضا والقبول نافذين هو ثقة الأغلبية بأن الحكم قادر على الإنجاز. واطمئنان الأقلية بأن السلطة سوف تكون عادلة قدر الإمكان عند تطبيق سياساتها. خاصة أن التداول هو أحد معايير الحكم الرشيد. وأن رؤية الأغلبية مهما طال حكمها سوف يأتى عليها اليوم الذى تسلم فيه السلطة للأقلية التى سوف تصبح أغلبية.

أخذاً فى الاعتبار أن مفهومى الأغلبية والأقلية فى المجتمعات الديمقراطية يقومان على أسس سياسية، لأن غير ذلك سوف يجعل الشرعية محل شك.. كيف؟

(2) من خلال الخبرة التاريخية، أدركت الشعوب أن درجة الشرعية تقل ـ ويمكن أن تنعدم ـ كلما انحرفت السلطة عن هذا التوافق. أو أخلت بتعهداتها التى التزمت أن تفى بها، أو عادت لتحكم لحساب جماعتها وحدها دون الآخرين، أى باتت السلطة تحكم لصالح لون واحد من هذه الألوان. أو تم الاكتفاء بالاستقواء بفئة فى الحكم انطلاقاً من الانتماء للمعتقد الدينى أو القومى أو الولاء لحزب شمولى كعوامل حاكمة للانحياز لهذه الفئة، على حساب الجماعة الوطنية التى تقوم على قاعدة المواطنة وعدم التمييز بين المواطنين.

(3) وقد اتفق الشرق والغرب على ما سبق. فكل من ابن خلدون وماكس فيبر ومن خلال سياق كل منهما، تشاركا فى أن «النظام الحاكم يكون شرعياً بقدر ما يكون معبراً عن طموحات المواطنين ـ أغلبية وأقلية بالمعنى السياسى ـ ومن ثم يحظى بالتأييد من قبل الموالين والمعارضين» إلى حين، ثم يتم التداول.

(4) ويعكس تطور المجتمعات كيف أن التحولات الأساسية ـ وبخاصة فى المجتمعات التعددية والتى عرفت قدراً من التحديث/ الحداثة ـ قد سارت فى اتجاه النظام السياسى المتجاوز الولاء للجماعة الأولية سواء على أساس دينى، أو قومى، أو شمولى،.. فقطعاً مهما اختلفت رؤانا حول تقييم تجربة الدولة الحديثة فى مصر، إلا أنها تعكس قدراً من التحول فى اتجاه تعميق الديمقراطية والتأكيد على الشراكة بين الحاكم والمحكومين فى إطار الدولة الحديثة.

وفى هذا السياق تكون مهمة النظام/ الحاكم هى الحفاظ على الشرعية القائمة على القبول والرضا ليس على المستوى المشاعرى وإنما بالمعنى العقلى والعلمى والمؤسسى الذى يتعلق بقدرة على الحكم غير قبلية أو مزاجية أو أبوية أو مغلقة لحساب فئة.

(5) فى ضوء ما سبق، يمكن القول بأن الإعلان الدستورى (نوفمبر الماضى والمعدل فى ديسمبر) بقراراته «التحصينية» و«التقييدية»، واستعداء القضاء وبتأسيسه لأجهزة موازية لها، قد أدت إلى إضعاف فى الشرعية بدرجة أو أخرى، خاصة أن مجموع هذه الإجراءات قد ارتبط ـ شئنا أم لم نشأ ـ بتمرير قسرى للدستور، وهو ما يعنى تحول من اكتساب للشرعية يقوم على الرضا إلى شرعية تقوم على الإكراه أو ما يمكن تسميته بشرعية الإكراه التى تعيدنا إلى فترة فى العصور الوسطى كانت الشرعية فيها لصاحب الشوكة والغلبة الأعلى.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern