«1»
الاستبداد ينتج عن أيديولوجية مغلقة، أو دفاعاً عن مصالح قلة، أو تحقيقاً لمصالح قوى خارج البلاد: إقليمية أو دولية، أو كل ذلك معاً. فمتى لا يرى الحاكم والنخبة التى يتبعها إلا الأيديولوجية التى تحكمهما «خاصة إذا اتشحت الدين»، والمصالح الضيقة للبعض من المواطنين والتواصل مع مخططات إقليمية ودولية تكون على حساب المسألة الوطنية فإن الاستبداد يكون «طبيعيا».
ويكون دأب الاستبداد قطع الطريق على ظهور قوى اجتماعية معارضة تتمتع بالاستقلالية، وتعيش فى إطار مجتمعى له مناعته السياسية ومناعته المدنية، وقبلهما القانونية، تجاه سلطة الدولة. وهذا يعنى:
■ تذويب المسألة الاقتصادية / الاجتماعية على الدوام.
■ تغييب المسألة الوطنية الجامعة.
«2»
إن التهرب من مواجهة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بشكل شامل، وتعميق الوطنية الجامعة- يؤديان إلى اتباع سياسة «تحويل» النظر بقضايا ذات طابع مشاعرى من عينة أن: الهوية فى خطر. وهنا يضمن تعبئة جماهيرية «شعبوية الطابع» ليس على أساس المصالح والموقع الاجتماعى، ما يؤدى إلى «تمييع» القضايا. وهنا تلجأ السلطة إلى استخدام القوة القهرية من خلال: الابتزاز الدينى، أو العنف بنوعيه المادى والمعنوى، أو إصدار قوانين، أو إجراءات استثنائية، أو كل ذلك معا، لفرض الشرعية خوفا من ضياع السلطة. وبدلا من العودة إلى الشعب وإلى جموع المواطنين للتشاور، تتخذ السلطة إجراءات استثنائية بدرجة يصبح «الاستبداد» فيها طبيعيا ومبررا. وإننى أعتبر «الإعلان الدستورى» الذى صدر فى نوفمبر الماضى نموذجاً مثاليا لما نقول. فكل ما تضمنه ـ بالرغم من إلغائه- قد طبق، وصار موضع التنفيذ، وهو ما وصفته «بشرعية الإكراه»: من تحصين قوانين وقرارات سابقة ولاحقة، وتمرير دستور غير توافقى، والتحرش بالسلطة القضائية، والإخلال بمبدأ التوازن بين السلطات.. إلخ. ما جعل الاستبداد يصبح طبيعياً، ويؤدى إلى ما نحن فيه. بل يدفع البعض إلى أن يستعيد كلاماً يذكرك بما حدث فى بدايات الدولة الأموية من التأكيد على فكرة «الجبر، وأن السلطة بقدر من الله، وأن الخليفة هو خليفة الله، وأن على الناس الطاعة»… وترجمتها الواقعية الشعبوية «اضرب ياريس واحنا وراك»، أو بحسب «ابن خلدون»: «الملك هو التغلب والحكم بالقهر».
«3»
إنها عودة إلى ما قبل الدولة الحديثة بمؤسساتها المختلفة: الإبداعية والعلمية، والعسكرية، والإدارية، والقضائية.. إلخ، من جهة، وإلى ما قبل 25 يناير من جهة أخرى الذى شهد حراكاً قاعدياً من المواطنين «من أسفل إلى أعلى» فى مواجهة الحاكم منهياً سلطة الحاكم المطلق الذى يعبر عن القلة الثورية، وإعادة الاعتبار إلى المسألة الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك المسألة الوطنية، تكريساً لعهد جديد من الحريات على قاعدة الكرامة الإنسانية.
إنها عودة إلى السياسات نفسها، التى احتج عليها المواطنون فيما يخص الاقتصادى، الأكثر تبنياً مواقف متراجعة فى مجال الحقوق المدنية والسياسية والثقافية، وحصار الإبداع والإعلام.
«4»
إن أخطر ما يتولد عن الاستبداد «الطبيعى» هو جعل الاستبداد نفسه من طبائع- إذا ما استخدمنا تعبير الكواكبى- الحياة اليومية، حيث تنهار المؤسسات «بالمعنى الحديث: القادرة على / والمنوط بها الضبط وفق القوانين واللوائح» فلا تتمكن من أداء دورها، فيسود الاستبداد عبر التنظيم الخاص التابع للسلطة فى مواجهة باقى المواطنين، وهنا الكارثة الكبرى!