أحلام الأمل بين الأنقاض أم نقطة تحول فى تاريخ الأمم والشعوب؟
دعنا نتواضع:
أفكار وركائز فى مواجهة عصر الزوابع.. بدايات: أليس كذلك؟
(1)
رحل أنور عبدالملك: الفيلسوف والمؤرخ والمفكر والمناضل السياسى المصرى الكبير. مات وحيدا فى باريس. ويبدو أن هذا قدر الكبار من عُمد العقل المصرى، أن يرحلوا فى هدوء وفى وحدة ودون اهتمام. رحل فى لحظة تاريخية حاسمة من تاريخ مصر. فلقد كان لأسباب معقدة يعيش بين باريس والقاهرة فى السنوات الخمس عشرة الأخيرة. على الرغم من أنه عندما عاد إلى القاهرة فى مطلع التسعينيات بعد اغتراب يزيد على الثلاثين عاما كان يتمنى ألا يتركها قط. وتشاء الظروف أن يسافر إلى باريس فى رحلته الأخيرة بعد شهرين من انطلاق الحراك الثورى المصرى فى 25 يناير 2011، وتحديدا فى مارس. حراك ثورى تمناه كثيرا وباركه، لكنه كان يدرك حجم المخاطر التى سوف تتهدد هذا الحراك الثورى وإلى أين سوف تذهب به، وأن السياق الذى عاشته مصر على مدى عقود سوف يدفع بالحراك الثورى إلى اتجاه نقيض للمطالب الثورية المشروعة التى انطلق من أجلها. وكانت كل مكالماته الهاتفية على مدى الشهور الماضية من باريس لى ولزوجتى تدور حول هذا الأمر.
(2)
لم تكن مخاوف أنور عبدالملك تنطلق من مشاعر الخوف السطحية أو من مواقف ذهنية بسيطة، لكن من رؤية مركبة يدركها جيدا كفيلسوف ومفكر ومناضل سياسى، فهو صاحب نظريات وأفكار تجديدية وخبرة نضالية تعكسها مجموعة من الدرر المعرفية: نهضة مصر، والجدلية الاجتماعية، وفى أصول المسألة الحضارية، ومن أجل استراتيجية حضارية، والإبداع والمشروع الحضارى، وتغيير العالم، والصين فى عيون المصريين، والوطنية هى الحل، ومصر مجتمع يبنيه العسكريون، الجيش والحركة الوطنية، والفكر العربى فى معركة النهضة، وريح الشرق، والشارع المصرى والفكر، والطريق إلى مصر الجديدة. ترسانة معرفية وفكرية من النوع الثقيل مكنته من أن يترأس الجمعية الوطنية للعلوم الاجتماعية الفرنسية، وأن يكون نائباً لرئيس الاتحاد العالمى لعلم الاجتماع لدورتين، وأن يعمل أستاذاً لعلم الاجتماع والسياسة والحضارة فى العديد من الجامعات الدولية، وخبيرا ومستشارا لكثير من الأكاديميات والقيادات الكونية. أنور عبدالملك كان فى الكثير من الأماكن يستقبل بشكل رسمى كما فى الصين.
لقد كان تكوينه المعرفى الموسوعى وإبداعاته وانفتاحه الدائم على جديد العالم تمكنه من رسم صورة شاملة للواقع مكتملة الأبعاد: اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا، ترتكن على عمق تاريخى لمصر والعالم من جهة، وعلى فهم التحولات المجتمعية المحلية والإقليمية والعالمية فى آن واحد. الخلاصة أن أنور عبدالملك هو فى قامة شخصيات من نوعية «هوبسباوم» و«والرشتين» اللذين يكتبان كتابة موسوعية.. هى مزيج من التاريخ والفلسفة والحضارة والاقتصاد وعلم الاجتماع…إلخ. بل إنه أهم من كثيرين نالوا التقدير مثل ادوارد سعيد ـ مع تقديرنا الكامل لمشروعه الفكرى ـ إلا أن أنور عبدالملك على سبيل المثال كان له السبق فى الاقتراب من قضية الاستشراق منذ عام 1962 فى دراسته المعنونة «الاستشراق فى أزمة»، التى نشرها فى 1962، وقد رد له الاعتبار «والرشتين» فى دراسة قدمها فى 1998لمؤتمر الاتحاد الدولى لعلم الاجتماع.
(3)
من هنا كان تخوفه من مسار نقيض للمسار الثورى الذى انطلق. وأذكر ما جاء فى الباب الأول من كتابه «الوطنية هى الحل» (630 صفحة من القطع الكبير، مكتبة الشروق الدولية 2006)، المعنون: «فى أصول البحث عن مصر»، والذى استهله بسؤال ينطلق من الواقع على الطريقة السقراطية الفلسفية هو:
■ ماذا التوهان؟
لماذا كثرت موجات التوهان فى مصر؟ وكيف نفسر حالة الركود والجمود، هذا المزيج المحبط من العجز، والضياع، وانعدام الرؤية…إلخ؟
يجيب أنور عبدالملك فى استفاضة نوجزها فى العناوين التالية:
■ تفكيك القاعدة الاقتصادية التاريخية، ترييف مصر، التصحير، زلزال الطبقة الوسطى، خصومة مع التاريخ، خصومة التيارات الفكرية الرئيسية مع بعضها البعض، التطرفان العلمى والدينى، إهمال دوائر التحرك الأساسية التى هى أركان الشخصية، الانصياع للتبعية، البعد عن العالم وتحولاته…إلخ، النتيجة: التغييب التام لمصر.
ويشير أنور عبدالملك إلى أنه لا مناص عن مصر قوية وحديثة وحضارية ـ تقدمية.
رحم الله أنور عبدالملك..