فى لحظات التحول السياسى من الأهمية بمكان أن تلتئم الإرادة الوطنية لجموع المواطنين على اختلافهم حول هدف واحد، هو كيف يمكن أن يُبنى الوطن بجهد كل مواطنيه وفق بوصلة هادية تمثل إطاراً مرجعياً حاكماً للحركة من أجل مستقبل ناهض للوطن.
فى هذا السياق قام فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، بمبادرة تأتى فى وقتها تماما، حيث وجه الدعوة لمجموعة من المثقفين المصريين للحوار مع عدد من علماء ومفكرى الأزهر للحوار والتدارس حول مقتضيات اللحظة الفارقة التى تمر بها مصر بعد ثورة «25 يناير»، ذلك «لأهميتها فى توجيه مستقبل مصر نحو غاياته النبيلة وحقوق شعبها فى الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية». وعلى مدى جلسات ست «توافق المجتمعون على ضرورة تأسيس مسيرة الوطن على مبادئ كلية وقواعد شاملة تناقشها قوى المجتمع المصرى وتستبصر فى سيرها بالخطى الرشيدة»..
وتمثل هذه المبادرة علامة فاصلة فى تاريخ مصر الحديثة، فمن خلال ما تضمنته من مبادئ – وكان لنا شرف المشاركة فى إصدارها – تعبر عن الخبرة الحضارية المصرية التى عرفتها مصر الحديثة، حيث تجدد الالتزام وتوصى بالاهتداء بها.
اجتهد المجتمعون فى «تحديد المبادئ الحاكمة لفهم علاقة الإسلام بالدولة.. وذلك فى إطار استراتيجية توافقية، ترسم شكل الدولة العصرية المنشودة ونظام الحكم فيها، من هنا توافق المجتمعون على عدد من المبادئ تشكل فى مجملها الأركان الأساسية للتقدم.
هذه المبادئ تنص على أولاً: «دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة».. ثانياً: «اعتماد النظام الديمقراطى»، و«توخى منافع الناس ومصالحهم العامة»، و«إدارة شؤون البلاد بالقانون والقانون وحده»..
ثالثاً: «الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية فى الفكر والرأى مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة والطفل، واعتبار المواطنة مناط المسؤولية فى المجتمع»..
ورابعاً: «الاحترام التام لآداب الاختلاف وأخلاقيات الحوار».. كما تؤكد الوثيقة ضرورة اجتناب التكفير والتخوين واستغلال الدين واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين، ويعتبر المجتمعون «الحث على الفتنة والعنصرية جريمة فى حق الوطن»..
خامساً: «تأكيد الالتزام بالمواثيق الدولية، والتمسك بالمنجزات الحضارية فى العلاقات الإنسانية»..
سادساً: «الحرص التام على صيانة كرامة الأمة المصرية والحفاظ على العزة الوطنية وتأكيد الحماية التامة والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات الثلاث، وضمان الممارسة الحرة لجميع الشعائر الدينية دون أى معوقات، واحترام جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها، وصيانة حرية التعبير والإبداع الفنى والأدبى»..
سابعاً: «اعتبار التعليم والبحث العلمى ودخول عصر المعرفة قاطرة التقدم الحضارى».. ثامناً: إعمال فقه الأولويات فى تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية، ومواجهة الاستبداد ومكافحة الفساد، والقضاء على البطالة، واعتبار الرعاية الصحية الحقيقية واجب الدولة تجاه المواطنين جميعا».. تاسعاً: «بناء علاقات مصر العربية والإسلامية والأفريقية والعالمية».. عاشراً: «تأييد استقلال الأزهر».. وأخيراً : «اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصة والمرجعية فى شؤون الإسلام».
كما قلت تأتى هذه الوثيقة فى وقتها تماماً، فهى تعكس مجموعة من الدلالات، لعل أولاها أنها تنطلق من القواسم المشتركة التى أسست للحداثة فى الدولة المصرية الحديثة من خلال استلهام روح تراث أعلام الفكر والنهضة والتقدم والإصلاح للأزهريين وللمثقفين المصريين، وثانيتها أنها وضعت أفكاراً إطارية توجه حركة المصريين نحو المستقبل،
وثالثتها حاولت أن تضع حداً للخصومات والخلافات الحدية التى تضعنا بين خيارات ثنائية فارقة، ورابع هذه الدلالات هى الصياغة الحاسمة والمتقدمة للكثير من القضايا المثارة وانحيازها الواضح للناس باعتبار أن «سعادتهم هى الهدف»، إذا ما استعرنا كلمة الراحل الكبير الشيخ محمود شلتوت. إن ما جاء فى الوثيقة يستحق فتح حوار وطنى واسع حولها، وأن تحظى بالنقاش المعمق السياسى والثقافى والإعلامى. تحية واجبة لشيخنا فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب.
الخلاصة: إنها وثيقة مبادئ حضارية مصرية نحو بلوغ الدولة العصرية.