من «الحراك الوطنى» إلى «العراك الدينى»

خلقت «25 يناير» حالة وطنية رائعة بين المصريين على اختلافهم بدرجة أو أخرى، حالة تجسدت فى «حراك وطنى» يسعى فيه المواطنون إلى ما يوحدهم فى مواجهة الفساد، وتدهور أحوال الوطن، ولكن- وآهٍ من و«لكن»- مع أول خطوة من خطوات خارطة الطريق لبناء مصر الجديدة ارتد المصريون إلى ولاءاتهم الأولى، وأعادوا بناء تحالفاتهم على أساس المصلحة الضيقة والآنية متسلحين بالدين، فأديرت عملية الاستفتاء على التعديلات الدستورية من خلال «عراك دينى» صريح.

(1)

كان من المفترض أن يتكاتف المصريون ما بعد 25 يناير لبناء وطنهم على قواعد جديدة حداثية، وعلى قاعدة التراكم مع كل نقاط الضوء ودورات النهوض، التى أنجزها المصريون عبر تاريخهم الحديث، وهو ما ألمحنا له مبكرا فى الأيام الأولى من الحراك عندما كتبنا «مصر الشباب والمستقبل: ثوب جديد أم رقعة جديدة؟»، (المصرى اليوم 3 فبراير الماضى). فبدلا من أن نشترك «معاً» فى «حياكة» الثوب الجديد الذى يضمنا جميعا، مال البعض إلى منهج الرُّقع الجديدة، ومال البعض الآخر إلى أن يشغل ثوبه الجديد بمعزل عن الآخرين باعتباره صاحب الفرح ومن حقه أن يغزل ثوب الوطن الجديد وحده، ومن ثم يحدد مَنْ من الآخرين يكون له نصيب فى هذا الثوب وإلى أى حد وكيف.

(2)

إن ما حدث فى الأسبوع الذى سبق الاستفتاء من تعبئة على أساس دينى اختلطت فيها شائعات تقول إن الإسلام وشريعته فى خطر، مما حفز الناس كى يهبوا للدفاع عن دينهم، خاصة فى الريف وأحزمة المدن، وتورط جماعات من الإسلام السياسى فى ذلك بالتنسيق مع الحزب الوطنى دليل على ذلك (راجع العناوين الرئيسية لصحيفة «الأهرام» ليومين متتاليين الأحد والاثنين الماضيين، وكثيراً من التقارير الصحفية وبعض الأوراق التى تم توزيعها فى وسائل النقل العامة، وبعض التصريحات التى تليت فى عظات صلاة الجمعة من أن قول «نعم» واجب شرعى، وليس أن المشاركة السياسية واجب فى ذاتها). فى الأسبوع نفسه تم الاستماع إلى خطاب دينى يعيدنا إلى نقطة الصفر فيما يتعلق بموقف الإسلام من غير المسلمين (راجع حوارات «الزمر» المتتالية فى ليلة واحدة)، كذلك ما أشرنا إليه الأسبوع الماضى وكيف أن بناء كنيسة أطفيح لم يبدأ إلا بعد إعلان الفتوى الدينية، والنتيجة أن قطاعات من الأقباط- وليس كلهم كما يشيع البعض لتبرير التعبئة الدينية فمنهم من قال «نعم» لأن مصالحه الاقتصادية تستلزم ذلك- تحركوا للدفاع عن وجودهم انطلاقا من الانتماء الدينى، وهكذا انتقلنا من «الحراك الوطنى» إلى «العراك الدينى».

(3)

فى هذا السياق، يغيب التفكير المُركب المنطقى والعقلانى، والحوار الموضوعى الذى يتعلق، فى واقع الحال، بين ضرورة التعديلات التى تستقيم مع حماية الدولة من الانهيار والانتقال التدريجى بمصر إلى التغيير الشامل، أو رفضها لأسباب موضوعية تتعلق بمدى شرعية الدستور ومستقبل العملية الديمقراطية إلى: «نعم» و«لا» على أساس دينى محض، وهنا مكمن الخطورة، وزاد من الأمر خطورة، فى ظنى ومن خلال متابعة دقيقة، اللغة التى يستعملها عدد من رموز الإسلام السياسى، وكثيرون تربطنى بهم علاقات مودة واحترام- لغة أتصورها ليست سياسية وإنما دينية بالأساس، وتميل إلى التحذير وتوجيه النصح والتلميح الضمنى إلى ضرورة اللحاق بما هم يتبنونه. كما وفى ظل هذا كله نجد مواقف غير حاسمة من غير المسلمين واستعادة لاجتهادات ومفردات تجاوزها إسلام الخبرة المصرية كما أقول دوماً.

(4)

الخلاصة: إننى أستشعر الخطر، خاصة أن خارطة الطريق التى بدأت بالاستفتاء على التعديلات الدستورية ليست إلا خطوة أولى سوف تعقبها خطوات أخرى، وأظن أن من صالح التجربة التى تعيشها مصر أن يتم «التفعيل» للحركة المشتركة بين المصريين لا «التعطيل». فالمجال العام والسياسى كما عكسه «ميدان التحرير» لابد من الحفاظ على طابعه المدنى وعلى المسافة بين ما هو عام وسياسى وبين الدين- كما كان يقول إمامنا خالد الذكر محمد عبده- وإلا تحولنا إلى دولة ثيوكراتيك (الأعمال الكاملة،ج1، ص107) بحسب قوله وهى خبرة عرفتها مصر ولم تكن تعنى الخصومة مع الدين، لأن الدين حاضر فى الحياة اليومية، ولكن لا ينبغى أن يحرك السياسة.

إننا فى حاجة إلى حوار وطنى يضمن استمرارية «الحراك الوطنى المشترك» بحيث نضع بعض القواعد، التى يجب أن يتم الاتفاق عليها وتحول دون الوقوع فى فخ «العراك الدينى».

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern