يا خيبتك يا عبدالباقى وخيبة كل اللى زيك.. عبارة عبقرية جاءت على لسان عبدالباقى الجوهرى، بطل قصة مسلسل «أنا وانت وبابا فى المشمش» والتى جسدها الراحل حسن عابدين.. المسلسل الذى ألفه مبكرا المبدع الراحل أسامة أنور عكاشة وعرض فى سنة 1989.. عبارة تذكرتها وأنا أطالع كل يوم قصص الفساد غير الطبيعية فى وسائل الإعلام.. ما قصتها ولماذا تذكرتها؟
لقد كان عبدالباقى الجوهرى موظفاً فى إحدى المحافظات، كفئاً مستقيماً وأميناً.. عُيّن سكرتيراً عاماً مساعداً للمحافظة، ليس لهذه الصفات، وإنما لفض التنافس بين موظفين آخرين كانا مطلوباً تعيين أحدهما ليس لكفاءتهما، وإنما لأنهما على استعداد أن ينفذا ما تقوله الإدارة.. ومع استحالة حسم الأمر تم تعيين عبدالباقى الجوهرى كحل وسط.. وكان من ضمن مهامه أن يتابع حسابات جمعية من جمعيات المحافظة التى كانت تعد لتخصيص قرية سياحية اسمها «طعمة».. وهنا كشف عبدالباقى كيف أن القرية المعروضة ليست هى الحقيقية..
فالمعروضة بها عيوب فنية ومع ذلك هناك إقبال عليها ومن ست شخصيات تحديداً وهو ما أثار ريبته.. وبالبحث اكتشف اللعبة.. لعبة أن تباع الأرض بالبخس وما إن تصبح فى ملكية الشخصيات الست يتم استبدالها بالأرض الحقيقية التى تساوى أضعاف أضعاف المبالغ التى دفعت.. تصدى عبدالباقى الجوهرى للفساد، فتم تلفيق تهمة له وحبس.. ما جرى لعبدالباقى قاده لمعرفة أن الفساد الذى حاربه ما هو إلا فساد متواضع مقابل الفساد الذى كان وراء كل شخصية من الشخصيات الست. فساد يمثل منظومة متكاملة متشابكة مكملة لبعضها البعض تنخر فى جسم المجتمع المصرى فى شتى مجالاته لها قدر من الحماية: تستبيح كل شىء وتستحل كل شىء من اتجار فى البشر والأعضاء والأعراض والمخدرات.. إلخ.
وعندما اطلع عبدالباقى الجوهرى على هذه النشاطات والمال الذى يديرها أدرك كيف أن الفساد الذى واجهه هو فساد ضئيل جدا مقابل الفساد العام والحقيقى والبنية المنتجة له، الاقتصادية ــ الاجتماعية، التى سمحت بوجوده وانتشاره.. وهنا قال قولته: «يا خيبتك يا عبدالباقى وخيبة كل اللى زيك». لقد كان منشغلا بمقاومة «الفساد الجزئى» وهو فساد لن يتم القضاء عليه ما لم يتم القضاء على البنية الاقتصادية ــ الاجتماعية التى ولد من رحمها هذا الفساد. كم هى مؤثرة جداً عبارة عبدالباقى الجوهرى.. وكم كنت أهتز عندما أسمعها بأداء حسن عابدين المذهل. أداء كان مزيجاً من الألم والغضب والاستنارة:
ألم بالحالة التى بلغناها، وغضب لأننا وصلنا إلى وضع غير مقبول ولا يستحقه وطننا، واستنارة ووعى بأن المواجهة لابد أن تختلف.
إن العبارة التى نطق بها عبدالباقى تعكس كيف أننا كأفراد قد نواجه الفساد بكل إخلاص ونزاهة من منطلق أخلاقى.. ولكن الفساد عندما يصبح منظومة لها قوانينها وآلياتها، فإن المواجهة الفردية تصبح «خيبة» ولا معنى لها.. وعندئذ لابد من التكاتف بين المخلصين من أبناء هذا الوطن لمواجهته بشكل جذرى وبنيوى.. إنها لحظة ميلاد جديد أدركها عبدالباقى الجوهرى.. بشر بها أسامة أنور عكاشة منذ وقت مبكر وكأنه كان يستشرف المستقبل ويقول إن «طعمة ليست قرية»، وإنما «طعمة عصر».. وكم كنت أتمنى أن يكون معنا الآن ليشهد صحوة هذا الوطن والكشف عن فساد غير طبيعى وغير مسبوق ربما منذ المماليك..