«أشعر بالفساد فى كل مكان وبقيت أتنفسه ومش حاسس بمقاومة من جانب الحكومة.. كل يوم الصبح أحس بالغربة، وأن البلد مش بلدى.. ليه المواطن يشعر أن كرامته برة أو جوة مش موجودة، وهل بكيت سيادتك عند غرق العبارة والجنود اللى بيموتوا على الحدود».
(1) هذه الكلمات قالها الشاب عبدالله أحمد بظاظو، ونشرتها «المصرى اليوم» فى أغسطس من سنة 2009، نطق بها فى حوار شبابى مع رئيس الحكومة آنذاك، وعلقنا عليها فى مقالنا «الشاب الفصيح» (11/8/2009)، وحذرنا ونبهنا وقلنا إن ما قاله الشاب يعبر عن مدى «الاحتجاج على الواقع والأسى لما وصل إليه حال المصرى فى بلده، وإنها تعكس همًا وحزنًا وإحباطًا كيانيًا، ومقاومة من الحكومة.. قد يرى البعض أن الشاب قد بالغ فى كلامه.. وقد يرى البعض الآخر أن هذه الكلمات أقل من الواقع بكثير.. وبالطبع سوف يختلف رد الفعل بحسب موقع كل واحد منا.. بيد أن الثابت هو أن كلمات عبدالله قد حظيت من الشباب الذى شارك فى اللقاء، بالتصفيق لمدة خمس دقائق متواصلة، وأنها هزت الوجدان والعقل».. وهو ما لم نعره اهتمامًا.
(2) لم نُعر «الشاب الفصيح» أى اهتمام، كما لم ننتبه إلى أن الشباب باتوا يمثلون غالبية قوام المجتمع المصرى (حيث 80٪ من سكان مصر عمرهم أقل من 40 سنة أى ما يقرب من 65 مليون نسمة، وأن نصفهم يقع فى الفترة العمرية من سن صفر إلى 15)، وأنهم «كتلة شبابية ضخمة طالعة» (إذا استعرنا عنوان مسرحية المبدع نعمان عاشور الجيل الطالع)، تحتاج منا إلى إدراك أنهم ينتمون إلى زمن مغاير لديهم ثقافتهم ولغتهم وهمومهم وطموحاتهم التى تختلف جذريًا عن الأجيال السابقة. وأنه فى غيبة التكوين الثقافى والمعرفى والتاريخى المنهجى المحترم، فإن من حقهم أن يبحثوا عن التكوين الذى يريدوه بالطريقة التى يرونها.
■ إنه «الانقطاع الجيلى» أردنا أو لم نرد..
(3) شباب تغيرت طرق تعبيرهم، خاصة فى مواجهة السلطة بأنواعها: السياسية، والدينية والمعرفية.. إلخ، فكل الاعتبارات والحواجز تزول مع اختلاف طرق التفكير والسلوك بين الأجيال. كذا تقل سلطة المرجعيات التقليدية: الأسرة، المؤسسة الدينية، المؤسسة التعليمية، بفعل الفجوة المتزايدة بين الشباب وهذه المرجعيات. فجوة من نتيجتها ألا تكون هذه المرجعيات قادرة على فهم أو اللحاق بالشباب لأسباب كثيرة ومعقدة. لذا سيكون الاحتجاج حاضرًا وبقوة ــ دومًا ــ وله الأولوية، بطرق عدة تقليدية وتكنولوجية متقدمة، وأنهم سيخلقون مرجعيات مغايرة لذلك بفعل تقنيات الاتصال المتقدمة وقدرتهم على التفاعل معها.
■ إنه «فك الارتباط بالمرجعيات التقليدية وخلق عوالم مستقلة جديدة وغير تقليدية».
(4) إن ما قاله بظاظو، والتحولات التى جرت للكتلة الشبابية الطالعة من انقطاع جيلى، وفك ارتباط بالمرجعيات التقليدية، فى سياق واقع مجتمعى مأزوم لاعتبارات كثيرة لعل من أبرزها: «الاستثمار للقلة»، و«الإفقار للأغلبية»، والأخذ بسياسات الليبرالية الجديدة التى طالما حذرنا من آثارها المدمرة، وجدناه يصبح محورًا للغضب وهدفا للتغيير للكتلة الشبابية بنوعيها «المرتاح» و«التعبان/ المهمش».
■ «المرتاحون» من الشباب الذين يرون أن مصر تستحق أكثر مما هى عليه.
■ و«المهمشون» من الشباب الذين يطلبون حياة كريمة فى وطنهم.
(فاصل)
وأنا أستعد لكتابة الفقرة الخامسة.. اتصل بى أحد المشاركين فى المظاهرة من قلب ميدان التحرير قلقًا من مناورات بعض السياسيين، وما هى إلا دقائق حتى أتتنى أكثر من مكالمة تعلن قلقها من تداعيات تصريحات القيادة الدينية على المشاركين فى المظاهرات، ومنها مكالمة قال فيها صاحبها إنه يصطحب زوجته وأولاده مشاركًا باقى المصريين موقفهم. التصريحات التى أوحت وكأن الأقباط لون واحد فيما هو سياسى ومدنى، وهو غير صحيح، فهناك العديد من الشباب من الأقباط يشاركون باقى المصريين موقفهم ليس بصفتهم الدينية، وإنما بصفتهم المواطنية، الصفة التى شارك فيها الأقباط فى كل الأحداث الوطنية، وهى الأحداث التى يتجاوز بها المصريون عمليًا أى اختلافات، كما أن هناك كثيراً من الشباب من المصريين المسلمين والمسيحيين من لهم رأى آخر حول المظاهرات.
(5) وواقع الحال، إن ما جرى يؤكد ما حاولنا قوله قبل الفاصل.. إننا فى لحظة فارقة يتقدم المشهد فيها كتلة جيلية تعبر عن مصر الشابة/ مصر المستقبل.. لديها رؤى وتصورات مغايرة لجيل الكبار الذى بات أقلية عددًا على الأقل.. لذا سنرى من يحاول من جيل السياسيين التقليديين ممارسة المناورة، أو من التيارات الأيديولوجية لاختطاف براءة الشباب، أو القيادات التقليدية لتكريس الانتماء للجماعات الأولية على حساب المواطنة التى هى جوهر الدولة الحديثة..
سوف يظل الجدل.. هل التغيير يكون بالمزيد من وضع الرقع الجديدة على الثوب أم بتغيير الثوب..
إنه جدل خبرناه مع ثورة الشباب فى 1968.. وسيظل.