الهندسة الاجتماعية والسياسية

المتابع للتجارب المجتمعية المختلفة، سواء على المستوى السياسى أو الاجتماعى، سوف يعرف أن التغيير يتم بطريقتين: إما بالتغيير الجذرى للواقع بالاشتباك والتفاعل معه.. أو ما يعرف فى علمى الاجتماع والاجتماع السياسى بـ«الهندسة السياسية والاجتماعية»..ما الفرق وما أثر كل منهما على مستقبل المجتمعات؟

(1)

فى الطريقة الأولى، يتبع الراغبون فى التغيير منهجا يقوم على الاشتباك مع الواقع والتفاعل معه وفهم المعوقات البنيوية: سياسية كانت أو ثقافية، التى تحول دون إحداث التغيير، ولهذا يجتهد دعاة التغيير فى فهم موازين القوى التى تتفاعل فى الواقع والقيم الحاكمة السائدة ومحاولة خلخلة هذه الموازين والتأثير الفاعل فى تعديل وتصويب السلبى من القيم السائدة بما يضمن إحداث تغيير حقيقى ملموس..

وتجرى عملية التغيير فى مكانها الحقيقى بين الناس وليس بعيدا عنهم، لذا يكون التغيير حقيقياً فى هذه الحالة، وبالطبع عندما يحدث التغيير الحقيقى إنما يعنى هذا فى الواقع أن موازين القوى قد طالها تعديل، وهو مؤشر يعد إيجابيا فى الحساب الأخير لعملية التغيير.

(2)

أما الهندسة الاجتماعية والسياسية فيقوم أصحابها بوضع خطط التغيير بعيدا عن الناس وعن الواقع، فلا يهتمون بموازين القوى أو بتعديل القيم، لذا يكون التغيير فى هذه الحالة تغييرا شكليا لا يصيب عمق الأبنية القائمة أو الاتجاهات التى تحكم السلوك، ويتم التعامل مع الواقع بكل تشابكاته وتقاطعاته الاقتصادية والسياسية والثقافية من خلال التصميم الذى يعد فى غرفة الرسم الهندسى بعيدا عن الناس وواقعهم، والنتيجة إحداث تغيير شكلى لا يمس موازين القوى أو القيم السائدة المعوقة للتغيير.

(3)

إن الهندسة الاجتماعية والسياسية للمجتمعات البشرية تكون أقرب إلى الوالدين، الذين يخططون لأولادهم وبناتهم حياتهم بشكل أقرب للتصميم الهندسى دون أن يقوموا بتوفير البيئة الملائمة، لجعل المخططات الهندسية واقعاً، أو بذل الجهد المطلوب لتأمين تهيئة الأبناء والبنات من أى نوع «نفسية أو ذهنية أو اجتماعية»، لجعلهم جاهزين للمخطط الهندسى الذى يتم تجهيزه على الورق أو فى ذهن وكلام الوالدين. والنتيجة أن تفشل مخططات التغيير الهندسية أو تتحقق بشكل ميكانيكى دون أن تحدث تغييرا حقيقيا فى واقع الأولاد والبنات، ينفذونه وهم فى حالة غربة كاملة مع ما تم هندسته لهم.

(4)

نفس الكلام يمكن أن يقال عن محاولات التغيير الاجتماعى، أنها تتم بشكل هندسى، لنأخذ مثلا حملات محو الأمية التى تتم بشكل لا يمس الموضوع فى عمقه وأسبابه الاجتماعية والمعوقات التى تمنع نجاح هذه الحملات، ومن هم أصحاب المصلحة فى الحيلولة دون نجاحها،

 لذا تختزل الحملات فى بعدها التقنى فقط، وكأنها مشكلة منبتة الصلة عن السياق الاجتماعى والاقتصادى.وهنا يلزمنا إدراك كيف أن مواجهة المشكلات الاجتماعية تحتاج إلى قدر من التواصل الحى مع الناس على المستوى القاعدى والتعاطى مع السياق الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والثقافى المنتج لهذه المشكلات، ومن ثم مواجهة أصحاب المصلحة الذين يريدون دوام الحال على ما هو عليه.

(5)

على المنوال نفسه، نجد كيف أن العملية السياسية تدار بمنهج هندسى فى حدود أقلية ثروية وأقلية تصويتية وأغلبية منصرفة «وهو تعبير استخدمناه مبكرا فى كتابنا (المواطنة والتغيير)»، والنتيجة بقاء الحال على ما هو عليه دون الإخلال بموازين القوى القائمة وبحضور حسب الطلب للتيارات السياسية.

المفارقة أن اقتصاد السوق الذى اعتمدناه خيارا اقتصاديا ـ على الرغم مما يتعرض له من مراجعات فى بلد المنشأ، وكما أشرنا أكثر من مرة ـ له مواقف نقدية من مفهوم الهندسة الاجتماعية والسياسية، بيد أن مفكرى السوق الحرة فى بلداننا يعتمدون الهندسة الاجتماعية والسياسية منهجا فى المجالات السياسية والاجتماعية، وفى سبيل ذلك يتم توظيف شتى الوسائل.

(6)

إن تجارب التغيير فى بلدان مثل الهند والبرازيل وتشيلى وماليزيا تشير إلى أن التغيير الحقيقى والتطور الاقتصادى والاجتماعى والسياسى- وهناك علاقة وثيقة تربط بينها، طردية وشرطية، أى أنه لن يحدث تطور فى مجال دون الآخر- لم تتم وفق الهندسة الاجتماعية والسياسية، وإنما باللامركزية والتعامل مع الناس على المستوى القاعدى وبترويض أصحاب المصلحة وخلخلة موازين القوى بما يسمح بالتداول بينها.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern