تعرضت تشيلى إلى كارثتين كبيرتين خلال هذه السنة.. الأولى عندما حدث زلزال كبير فى مطلع السنة.. والثانية عندما تعرضت مجموعة من عمال المناجم إلى انهيار أحد المناجم وبقوا تحت الأرض على عمق يقارب الـ700متر لمدة تقترب من الشهرين ونصف.. وفى الحالتين أبدت تشيلى، حكومة وشعبا، قدرة مذهلة على التعامل مع الكوارث.. قدرة تقول إننا أمام بلد كبير ومتقدم.. وقد كانت ناعومى كلاين محقة عندما قالت فى معرض تعليقها على الأداء التشيلى فى مواجهة الكارثة الأولى إن: «قدرة المجتمع على التعافى من كارثة طبيعية هى انعكاس للقدرة الاقتصادية والسياسية».
(1)
ونزيد على ما سبق أن التعاطى التشيلى مع الكارثة الثانية قد أفصح عن قدرة علمية مذهلة لهذا البلد الصاعد بقوة كى يحتل مكانا ومكانة فى عالم اليوم، إنها قصة تقدم.. فعلى الرغم من التغطية العربية للحدث إلا أنها فى المجمل ركزت على البعد الإنسانى فى القصة وعلى مشاعر الإحباط واليأس التى انتابت أسر المحبوسين فى الجب، هذا بالإضافة إلى قصص الحب والصداقة التى تم اكتشافها.. إلخ،.. ولاشك أنه أمر «مُسلى».. إلا أن ما لم ننتبه إليه هو القدرة العلمية بالغة التقدم والدقة التى تجلت فى خطة إنقاذ عمال المناجم.. والتى صنعت بأيد تشيلية خالصة.
(2)
خطة تجلت فى صنع قوات البحرية التشيلية «كبسولة» إنقاذ لإخراج عمال المناجم البالغ عددهم 33 عاملا.. كبسولة وزنها 429 كلجم،وطولها 3.9 متر، وقطرها 54 سم.. كبسولة صممت لحمل عامل واحد فى المرة الواحدة ويكون فى وضع الوقوف.. مزودة بأجهزة لنقل الصوت والصورة إلى السطح.. مغلفة من الخارج بصفيحة من الفولاذ يبلغ سمكها 4 ملم حتى تتحمل أثناء الصعود والهبوط أى احتكاك بجدار نفق المنجم، وخاصة أن العمال المحبوسين على مسافة تقترب من 700 متر تحت سطح الأرض.. ويلاحظ مدى دقة تصميم الكبسولة فى أن قطرها تم تصميمه على ألا يزيد على 54 سم خاصة أن قطر النفق 61 سم.. بالإضافة إلى وضع إمدادات أوكسجين فى قاعدة الكبسولة تكفى لمدة 3 ساعات.. كما تم تدعيم الكبسولة بعجلات مزودة بنظام امتصاص الصدمات تم تثبيتها أعلى وأسفل الكبسولة بشكل يساعد على تخفيف حدة احتكاك سطح الكبسولة بجدار البئر.
(3)
وتشير المتابعة الدقيقة للكيفية التى تم بها ابتكار الكبسولة فى ضوء واقع معقد- من حيث منجم مهدد بالانهيار والحاجة إلى تعامل حساس للغاية مع عمق بالغ الطول- إلى ذهنية علمية حاولت أن توفر كل شروط الأمان المطلوبة لنجاح عملية الإنقاذ.. وهو ما تجلى فى التطبيق العملى لعملية الإنقاذ من حيث دقة التنفيذ وتحقق كل ما هو مخطط.. فعملية إنقاذ العامل الواحد استغرقت 55 دقيقة كما كان مقررا.. والأهم فى هذا المقام هو طريقة تحديد ترتيب إنقاذ المحبوسين حيث كانت الأولوية للأكثر صحة وشبابا… ثم وضعهم للواقط الكترونية تقيس ضربات القلب وغيره من الأمور حيث يتم إنزال من يتعرض لأى اضطرابات.. يتم كل هذا دون توتر أو تزاحم أو ضجيج.
(4)
واقع الحال، وبعيدا عن القصص الإنسانية المتعلقة بأبطال الكارثة..نقول ومن خلال متابعتنا لتشيلى وكثير من دول أمريكا اللاتينية منذ وقت مبكر من خلال دراستنا لتجربة لاهوت التحرير- إننا فى حالة تشيلى أمام دولة جديرة بالاحترام والدراسة.. دولة استطاعت تجاوز ديكتاتورية بينوشيه من خلال نضال سياسى حقيقى وحركة دينية تقدمية انحازت للفقراء.. والنتيجة أن دعت منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية تشيلى للانضمام إلى عضويتها.. لتكون بذلك أول دولة من أمريكا الجنوبية ضمن أعضاء المنظمة الذين يبلغون 30 دولة من ضمنهم: الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، ودول أوروبية.. وهى دعوة لم تحدث- تاريخيا- منذ أكثر من جيل.. ولم يكن هذا ليحدث إلا لأن تشيلى حققت معدل نمو يقترب فى المتوسط من 5% على مدى حقبة كاملة منذ 2000 إلى 2009، ويعد من أسرع المعدلات.. كما تشير الدراسات إلى انخفاض معدلات الفقر من نسبة 45 % إلى 14%.
كما أن تشيلى حافظت على مسيرة ديمقراطية ثابتة ومستقرة لعل من أهم ملامحها: قوى حزبية قوية، وتداول للسلطة.. كما احتلت تشيلى الموقع التاسع فى مجال تكنولوجيا المعلومات..
(5)
إن تقدم تشيلى هو حصيلة معادلة عناصرها: العدالة والديمقراطية والعلم.