فى الأول من سبتمبر أى منذ أسبوع بالتمام والكمال نشرت «المصرى اليوم» خبرا فى صفحتها الأولى عنوانه الرئيسى: «نجاح تجربة روسية للاستغناء عن قناة السويس وتضارب حول تأثر مصر».. وببنط أصغر عناوين فرعية تقول: «ناقلة غاز سافرت للصين عبر القطب المتجمد.. والطريق الجديد أقصر وأقل تكلفة».. وكانت هناك صورة على ثلاثة أعمدة للسفينة أو الناقلة الروسية أثناء عبورها الطريق الملاحى الجديد.. واستكملت الصحيفة الخبر على صفحة تقريبا مع تعليق بارز للمسؤولين عن قناة السويس فى الصفحة الخامسة.
(1)
واقع الحال استوقفنى الخبر.. وتابعت قراءته فى «المصرى اليوم»، كذلك كيف تم تداوله دولياً.. وكيف تم الاهتمام به فى الأوساط الجيوسياسية لما يحمل من دلالات مركبة.. وبعيدا عن الجزء الذى يخص المدى الذى يمكن أن تتأثر به قناة السويس من جراء هذه التجربة.. فإن أهم ما يمكن أن نشير إليه هو أن هذه التجربة هى فى مجملها تعبير عن دولة ومجتمع انخرط فى مواكبة العالم الجديد على عدة مستويات.. وأن مواكبته هذه تقوم على العلم/التكنولوجيا والتخطيط والمغامرة المحسوبة.. وبها بات المحال «ممكنا» من أجل خدمة الناس.
(2)
الدلالة الأولى، هى درس التاريخ الأول والخالد، أن الحاجة أم الاختراع، لقد جبل الإنسان على أن يتحدى الطبيعة ومن تحديه للطبيعة تستنفر طاقاته الذهنية والعضلية من أجل الاكتشاف والابتكار.. لقد لاحظ العقل المتأمل والمكتشف والمجرب أن هناك تغيرات مناخية وذوباناً للجليد فى بعض المساحات يتيح ما كان يعوق دون الملاحة فيها.. وإذا تمت الاستفادة من ذلك فإنه يوفر الوقت والزمن والتكلفة فى نقل الكثير من الثروات.. وبالفعل قامت روسيا فى 14 أغسطس الماضى بتسيير ناقلة الغاز «بالتيكا» من مدينة مورمانسك الروسية إلى مدينة شنغهاى الصينية عبر الطريق المحاذى لسواحل روسيا الشمالية من المحيط المتجمد الشمالى.. إنها رحلة كانت مستحيلة وغير ممكنة فى ظل المناخ فى صورته التقليدية.
بيد أن المغامرة مطلوبة.. لأن نجاحها يعنى أن تستغنى روسيا عن استخدام الطريق الجنوبى عبر قناة السويس.. وفتح أسواق شرق آسيا أمامها بطريق أقصر بنحو 5 آلاف ميل، وأقل كلفة للوقود بنحو مليون دولار، ويوفر وقتا قدره 40 يوما.
(3)
الدلالة الثانية هى أن هذا الحدث سوف يشجع التواصل بين أوروبا والشرق الأقصى عبر بحر الشمال.. وأن التجارب التى كانت تتم فى الماضى سوف تتحول إلى المسار المفضل من جهة لاعتبارات لوجستية (تنظيمية وإدارية ومالية حيث إن السفن التى تنطلق من الموانئ الأوروبية إلى اليابان تعبر قناة السويس وتقطع مسافة 20 ألفا و500 كم، أما إذا سلكت هذه السفن طريق بحر الشمال فإن عليها أن تقطع 1200 كم فقط وهذا الاختصار فى المسافة يوفر على كل باخرة 10 أيام من الوقت، ومن المال 300 ألف دولار).. ومن جهة أخرى لتحول مركز الثقل عمليا من الشرق الأوسط بعد تأمينه بالكثير من الترتيبات إلى بحر الشمال.. وهذه الدلالة تعكس التحولات السياسية فى المنظومة السياسية الدولية بين أوروبا وآسيا من جهة، وبين روسيا وأوروبا من جهة ثانية وبين روسيا والصين وآسيا من جهة ثالثة.. وأمريكا من على الجانب الآخر.
(4)
الدلالة الثالثة، تتعلق بأن هذا الطريق بالنسبة لكثير من الدول بعد أن جربته روسيا بنجاح إلى الآن يمر عبر المياه الإقليمية الروسية، ما يعنى دخلا إضافيا لروسيا.. بالإضافة إلى أنه يسهل استغلال الثروات الهائلة الكامنة تحت جليد القطب الشمالى وهو ما سوف تستفيد منه روسيا بطريقة أو أخرى.
■ القطب الشمالى: محور الاهتمام المستقبلى للعالم.. (وكنا أشرنا إلى أهميته فى مقال سابق منذ أكثر من سنة ونصف فى ضوء دراسة نشرت فى مؤسسة التراث الأمريكية المحافظة).
(5)
خلاصة القول، الدول/ المجتمعات الحية تتحرك من حولنا.. تخطط وتُعد وتُغامر وتُجرب.. توظف كل طاقاتها من أجل تقدم ناسها.. ولا يتأتى هذا إلا برفع قيمتها «الجيو سياسية» و«الجيو اقتصادية».
إن خبر الناقلة «بالتيكا».. نشر ومر نشره مرور الكرام.. فلم تعد هذه النوعية من الأخبار تستوقفنا.. والقضية أعقد بكثير من مجرد تأثر قناة السويس.. بل إن هناك دنيا جديدة تتشكل من حولنا تعلن نهاية مرحلة ومنطقة ومنظومة.. وبداية مرحلة ومناطق أخرى أكثر أهمية بثرواتها المذهلة ومنظومة جديدة قيد التشكل لسنا فيها.. لأننا لم نزل مشدودين لقضايا لا تمت بصلة للعالم الجديد.