الفساد ليس قدراً أو حالة فردية

تزعجنى جدا بعض المحاولات التى يبتعد بها البعض عن التفسير العلمى لحالة الفساد، التى تشيع فى مجتمعنا.. ومحاولة قصر تفسير انتشاره على البعد الأخلاقى فقط دون غيره.. والإصرار على أن الفساد ما هو إلا ظاهرة فردية عابرة..

(1)

فالقراءة العلمية تقول إن هناك أسباباً موضوعية أدت إلى تنامى ظاهرة الفساد، إلى حد يتفق الجميع على أنه غير مسبوق.. وقد أسهمت العقول المصرية فى تفسير الظاهرة منذ وقت مبكر.. تفسيرات تضع المسألة فى إطارها الصحيح وتعيدها إلى مجال العلم.. فالموضوع ليس أخلاقياً أو فردياً، إنما هو نتاج سياق مجتمعى تداخلت فيه المصالح وتوزيع المغانم وترهل المؤسسات.. الخ.

(2)

وأثناء اطلاعى على أكثر من عمل علمى مصرى وعربى وأجنبى تناول هذا الأمر والاستعداد لإلقاء الضوء على الأسباب العلمية للظاهرة.. وقع فى يدى كتاب مهم للصديق العزيز الأكاديمى والمثقف والأديب الدكتور خالد زيادة (سفير لبنان فى القاهرة) عنوانه «الخسيس والنفيس: الرقابة والفساد فى المدينة الإسلامية» (2008).. حيث لفت نظرى إلى أنه حتى فى التراث الإسلامى الدينى نجد أن هناك اجتهادات أعادت ظاهرة الفساد إلى طبيعتها الموضوعية وليس الأخلاقية فقط..

(3)

يشير الكتاب إلى الرسالة القصيرة، التى كتبها تقى الدين المقريزى (ت845هـ /1441م)، والمعروفة باسم «إغاثة الأمة بكشف الغمة أو تاريخ المجاعات فى مصر»، حيث يقول الدكتور «زيادة» كيف تبين لنا هذه الرسالة(كتبها سنة 808 هـ / 1405م) مقدار العمق الذى أحرزه المقريزى فى إدراكه لأسباب الفساد، والذى كانت من أهم مظاهره: «تفاقم المجاعات» و«الغلاء» و«الاحتكار».. حيث يرصد أسباب الفساد فى ثلاثة أسباب لا رابع لها، وذلك كما يلى:

■ السبب الأول وهو أصل هذا الفساد، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة، الأمر الذى يدفع أصحاب الولايات إلى زيادة الضرائب على الفلاحين..

■ والسبب الثانى: غلاء الأطيان، أى زيادة كلفة الزراعة.

■ والسبب الثالث: رواج الفلوس، أى ضعف قيمتها، خصوصا حين ضرب النحاس. بينما النقود المعتبرة شرعا وعقلا وعادة إنما هى الذهب والفضة فقط.

وينهى المقريزى رسالته بقوله: «ليس بالناس غلاء إنما نزل بهم سوء تدبير من الحكام».

(4)

ويعلق الدكتور خالد زيادة على ما سبق بقوله: «إن أسباب الفساد إنما ترجع إلى سوء الإدارة وفساد السلطة».. ويشير إلى الخبرة التى اكتسبها المقريزى وميزته على من سبقه «السبكى» والأسدى»، بأن تكرار ظاهرة الفساد لا يعالجها فقط الالتزام بالقواعد الأخلاقية وإنما بحسب المقريزى «بمواجهة سوء التدبير، وذلك بإصلاح النقد، وضبط الإدارة، ومنع أصحاب السلطة من التدخل فى شؤون التجارة والزراعة واحتكار الأقوات».. «أى كل ما يؤدى بحسب المقريزى إلى الغلاء والمجاعة واضطراب الأحوال والفتن»..

(5)

من جانب آخر اتخذ التراث المسيحى الشرقى موقفا حادا من الفساد أو الغش بحسب التعبير الذى ورد فى الدسقولية (أحد مصادر القانون الكنسى القبطى. ولقد فقدت نسخته اليونانية والقبطية وصارت النسخة العربية حاليا هى النسخة الأم.. وقد قام المفكر الكبير الدكتور وليم سليمان قلادة بجهد ضخم لمراجعة وتحقيق النص، استغرق هذا الجهد 20 عاما، حيث خرج النص فى 600 صفحة مسبوق بدراسة اقتربت من 300 صفحة من القطع الكبير).. حيث شجبت الدسقولية الغش ومن يمارسون الغش مثل:

■ المضلون بالميزان.

■ والذين يكيلون بالغش.

ليس فقط على المستوى الأخلاقى بل على المستوى الإجرائى وحددت عدم قبول عطاء أو(زكاة)، من لا تخلص أموالهم لأن هذا سوف يعنى:

■ إعادة إنتاج الفساد فى الواقع.

■ ممارسة الاستغلال والقهر.

■ الاحتكار الذى يتحقق بالاستقواء على الضعفاء والمهمشين.

(6)

صفوة القول، الفساد ليس قدرا علينا القبول به.. وليس حالة فردية، حيث تجاوز المعايير المقبولة.. كذلك لا يمكن القبول بالتفسيرات اللاعلمية للظاهرة.. وحتى تراثنا الدينى استطاع أن يعيد الظاهرة إلى دائرة العلم بفهم الأسباب والسياقات، وما يترتب على استمرار الظاهرة، وأن الالتزام الأخلاقى وحده لا يكفى لمواجهة الظاهرة التى تتقاطع وتتشابك أسبابها وتداعياتها وهو ما سوف نلقى الضوء عليه لاحقاً..

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern