سنة «الفراغ» والتنسيق.. وفلسفة التعليم

قضية التعليم من القضايا دائمة الحضور على جدول أعمال الدول المتقدمة.. فالجهات المعنية ومراكز البحوث والدوريات فى هذه الدول تجدها تناقش جدوى العملية التعليمية بشكل دورى.. انطلاقا من أن تطوير التعليم بشكل دائم هو السبيل الوحيد للتقدم فى عالم دائم التغيير..

(1)

بيد أن إعلان نتائج التنسيق هذه السنة يثير الكثير من التساؤلات..بداية من المصطلح الذى شاع فى تفسير انخفاض المتقدمين للكليات، حيث تم تبرير ذلك بأنه نتيجة «لسنة الفراغ» تعبيرا عن السنة الدراسية التى ألغيت فى وقت من الأوقات ثم عادت «بسلام» لاحقا.. ومن هنا نطرح سؤالنا الأول هو: لماذا ألغيت هذه السنة ولماذا عادت؟.. أخذا فى الاعتبار المبررات التى سيقت بإلحاح آنذاك لتبرير إلغاء هذه السنة.. والمبررات التى طرحت بنفس درجة الإلحاح وربما من نفس الأشخاص لتبرير عودة السنة الدراسية التى تم إلغاؤها.. وأظن أنه من حقنا أن نعرف كمواطنين بعد مرور دورة زمنية على القرار ونقيضه ووصول طلبة سنة الفراغ للالتحاق بالجامعة، الآثار التى خلفتها هذه القرارات على بنية التعليم المصرى ومستقبله.

(2)

السؤال الثانى الذى أطرحه على الخبراء والمعنيين والمهتمين بالشأن التعليمى فى مصر.. هو أنه بمتابعتى لقائمة الكليات بحسب تنسيق هذا العام وجدت أن هناك كليات يتم الالتحاق بها، وفق القائمة، بحسب تخصص بعينه، فعلى سبيل المثال نذكر الآتى: علوم/رياضة، وفنون جميلة /عمارة، وفنون جميلة/فنون، وزراعة /هندسة زراعية، وزراعة/إدارة أعمال، وتربية / رياضة، وتربية/ابتدائى.. إلخ.. وسؤالنا هنا هل يتخصص الطالب مباشرة بمجرد التحاقه بالكلية.. وإذا كان هذا ما يحدث فهل يصح أن يتم تفتيت الكليات إلى تخصصات بعينها.. وتصبح الكلية فى الواقع مساوية للتخصص.. وبهذا يصبح لدينا مع الوقت علوم رياضة، وعلوم حشرات، وعلوم كيمياء، وعلوم فيزياء.. ثم مع الوقت ربما نقبل بأن يكون لدينا علوم كيمياء حيوية وعلوم كيمياء تحليلية وهكذا؟..وكأن الالتحاق هو التحاق بشعب علمية فى واقع الأمر.. قد يقول قائل إن التخصص الدقيق لا يتعارض مع توفير المعرفة المطلوبة.. على أى حال هو أمر يحتاج إلى فهم وتوضيح.

(3)

السؤال الثالث يتعلق بالشُّعَب اللغوية التى يزداد عليها القبول مثل:حقوق فرنسى، وإعلام إنجليزى، واقتصاد إنجليزى، واقتصاد فرنساوى، وتجارة إنجليزى.. وبالطبع هو أمر يمكن تفهمه من حيث حاجة سوق العمل إلى اللغات مع تنامى حركة الشركات العابرة للحدود.. بيد أن السؤال: ماذا عن خريجى نفس الكليات الذين يدرسون باللغة العربية؟..ألا ينتج ذلك فى واقع الأمر تفاوتا فى المستويات بين أبناء المهنة الواحدة؟.. وفى هذه الحالة تنتفى فكرة المساواة التى من المفترض أن يؤَّمنها التنسيق.. أخذا فى الاعتبار أن المدارس العامة كانت توفر حدا أدنى من تعلم اللغة أصبح غير متوفر.. ومن ثم أصبح الفوز بالشعب اللغوية من نصيب خريجى اللغات من الأصل.

(4)

إن القراءة المباشرة للأرقام والإحصاءات والنسب الخاصة بتنسيق الدخول إلى الكليات هذه السنة، تقول إن السنة الدراسية لهذا العام قد مرت على خير من المنظور الإدارى والبيروقراطى.. بيد أن القراءة التى تحاول قراءة ما وراء الأرقام ومعرفة ما وراء الظاهر إنما تثير الكثير من الإشكاليات.. خاصة بعد أن أصبح الالتحاق بحسب الشعب «اللغوية» و«التخصصية الضيقة».

ألم يناقش كثير من الرواد مبكرا خطأ تقسيم التعليم إلى علمى وأدبى بلغة جيلنا.. المجموعة الأدبية والمجموعة العلمية بلغة هذه الأيام.. انطلاقا من وحدة العلوم؟.. وهو ما يتسق مع التوجهات العالمية التى تدرك أهمية التأكيد على العلاقات الوثيقة بين فروع المعرفة المختلفة.. وأهمية التوازن بين الفنون والعلوم والدراسات الإنسانية فى التعليم وفى كل أشكال التفكير التى تعلى من شأنها، ودراستها بأساليب تعكس صلاتها الحميمة بما وراء عالم التعليم.

(5)

يدفعنا كل ذلك إلى ضرورة الحديث عن فلسفة التعليم فى مصر وما يترتب على هذه الفلسفة من سياسات ونظم تكون قادرة على أن نلحق بالمستقبل.. حتى لا نواجه فى المستقبل ليس بسنة فراغ وإنما بعقود من «الفجوة» المعرفية بيننا وبين العالم.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern