«فرز ثانى»

«فرز ثانى»، تعبير يطلق على المنُتج الذى به عيوب صناعية.. ولكنها عيوب غير ظاهرة أو ظاهرة يمكن التعايش معها.. وفى الحالتين لا يمكن وضع هذا المنُتج «المعَيب» مع المنُتج «المتُقن» والذى صنع بحسب معايير الجودة المتعارف عليها ولا تشوبه شائبة واحدة، فى نفس المستوى.. لذا يتم التمييز بين المنتجين من حيث مكان العرض والقيمة.. خاصة إذا تم الاتفاق على طرح المنُتج «المعيب» للبيع وعدم إهلاكه والتخلص منه.. شريطة إعلان ذلك على الجمهور وتأكيد وصفه بأنه «فرز ثانى» ويترك الأمر للمستهلكين فى نهاية الأمر..

(1)

واقع الحال لم أجد أفضل من هذه الكلمة لتصف حالة- أخشى أن تكون عامة- بتنا نعتمدها فى كثير من الممارسات الحياتية.. بداية من السياسة مرورا بالفن والثقافة والنشاطات الاجتماعية والمهنية إلى الدين.. حالة ثقافية يمكن تسميتها «بالفرز الثانى».. أستطيع أن ألمحها فى قبولنا «للصنايعى» أن ينجز لنا عملا بغير إتقان حيث يترك ذيولا لما قام به من إصلاحات أو تراكيب بطريقة الفرز الثانى.. أو للموظف فى إحدى الجهات الحكومية الذى يمسك بقلم جاف دون غطاء مربوط «بأستك» غير نظيف فى يد المكتب وتبدو عليه آثار «عضعضة».. حيث يبدأ فى ملء الأوراق المطلوبة بخط سيئ وبسرعة تجعله يسقط أسماء أو معلومات أو أرقاماً مهمة تسبب مشاكل كبرى لاحقا.. إنها حالة من إنجاز العمل بطريقة «الفرز الثانى»..

ولا أنسى أيضا كيف أنه فى إحدى حفلات الموسيقى العربية التى حضرتها مؤخرا كان المطرب يغنى لمحمد رشدى بطريقة لا تمت بصلة له.. وأعضاء الفرقة فى حالة تنافر موسيقى فى أوقات غير قليلة من فقرات الحفل، ويبدو أنهم لم يتدربوا معا الوقت الكافى الذى يؤهلهم للخروج بشكل مناسب للجمهور.. هذا عدا أن كل فرد من أفراد الفرقة كان يرتدى «زيا» مختلفا تماما عن زميله.. إنها حالة أخرى من حالات «الفرز الثانى».. إنتاج ولكنه لا يرقى للجودة المتعارف عليها وللتقاليد التى تعرفها هكذا حفلات.. ولا أنسى أن أذكر أنه من على الجانب الآخر كان الحاضرون فى حالة «نصف سعادة» بما يقدم من منطق «أهى ونسة» بسعر زهيد..

(2)

■ لا تقف حالة «الفرز الثانى» على ما سبق من مشاهد ولقطات.. وإنما نجدها فى كافة المجالات من سياسة وتعليم وصحة وبحث علمى وإعلام ونشاطات تنموية متعددة.. الخ.. حتى فى الشخصيات التى تقود العمل فى مختلف المجالات.. حيث المنتج النهائى لا يرقى إلى الجودة المطلوبة.. والمعيار المهم الذى يمكن أن نقيس به هذه المقولة هو عدم وجود نقلات نوعية حقيقية فى واقعنا.. «فاللى بنبات فيه بنصبح فيه».. ولكننا نقبل بالمنتج المعيب فى نهاية الأمر وهنا تكمن المشكلة.. لماذا؟

(3)

■ إن خطورة الحالة الثقافية التى أطلقنا عليها «الفرز الثانى»، أنها باتت تحظى بقبول جميع الأطراف.. سواء بوعى أو بغير وعى.. بإرادتهم أو دون إرادتهم.. الكل فيما يبدو يقبل بهذه الحالة لسبب أو لآخر.. قد تسمع بعض التذمر من هذا أو ذاك.. بيد أن الكل يذعن للأمر الواقع.. فهذه هى البضاعة الموجودة.. ومن ثم لا بأس من التعايش معها.. والأمر الذى يترتب على قبولنا إنتاج نوعية «فرز ثانى»، فى المحصلة هو أننا:

■ مع مرور الوقت بتنا نتعايش مع هذه النوعية الإنتاجية «المعيبة».. فنتجاوز عن العيوب لأن «الكمال لله وحده».. ونقبل بالأدنى دون أى طموح لبلوغ «الأفضل».. وأى منتج مقبول ما دام يؤدى الغرض حتى لو كانت كفاءته أقل من منطلق «يا سيدى كله كويس» و«ما تدُقش»..

وظنى أنها نتيجة طبيعية ومنطقية لمن تعود على البضاعة «فرز ثانى»- لوقت طويل- فلا يستطيع أن يقف على ما تحتويه من عيوب سواء ظاهرة أو غير ظاهرة، ولا يملك القدرة المطلوبة التى تمكنه من الكشف عن العيوب..

وبالتالى لا يمكن طلب البضاعة الأفضل وفق الجودة والمعايير التى بلغها التقدم الإنسانى..

بضاعة «فرز أول»..

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern