فى زمن تغيب فيه معايير التقدير.. وبخاصة عن الذين يعملون بجد ومثابرة فى وطننا العزيز.. فى زهد وبعيدا عن الضوضاء ومحطات الفضاء والأضواء.. كان خبر ذهاب جائزة الدولة إلى الأستاذ الدكتور سيف الدين عبد الفتاح أستاذ النظرية السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة.. من الأخبار السعيدة والمهمة التى يجب أن نحتفى بها ونشارك الرجل جهده العلمى التجديدى.
(1)
عرفت الدكتور سيف قبل أن ألقاه من خلال كتابه العمدة «التجديد السياسى والواقع العربى المعاصرـ رؤية إسلامية»، الذى صدر فى مطلع التسعينيات.. وكم كانت فرحتى كبيرة بهذا الكتاب، لأنه كان يمثل محاولة أصيلة ومتميزة للاجتهاد فى الفكر السياسى الإسلامى..مغايرة تماما لما ساد خلال السبعينيات والثمانينيات من كتابات غلب عليها التشدد والمصلحة السياسية والأخذ بالقشور وبالهامشى.. حيث كانت أقرب إلى كتابات أزمنة الضعف.. فالكتاب يذكرك بالكتب التى كنا نقرأ عنها ونحاول استعادتها فى مواجهة كتابات وافدة أدنى بكثير مما عرفته مصر فى مجال العلاقة بين السياسة والدين من الإبداعات التى كتبها المصلحون والمجددون الأوائل فى مصر بداية من شيخنا الجليل الطهطاوى، والإمام محمد عبده، والأساتذة محمد حسين هيكل وطه حسين وغيرهما.. فالكتاب يمثل امتدادا لهذه الزمرة من المجتهدين الأصلاء.
(2)
كان الكتاب من البراح فى انفتاحه على هذه الإبداعات وعلى اجتهادات القدامى، حيث استطاع أن يدخل فى حوار جدلى هدفه النهائى أن يجعل من التجديد حقيقة ودحض من ينكر الاجتهاد.. فهو فريضة.. لذا نجده يحرص على أن يحدد ماهية التجديد؟.. الذى يعنى لديه «تقويم الانحراف وإحياء الأصول فى مواجهة المواقف المستجدة والمستحدثة دون إفراط أو تفريط أو استظهار فى كل ما يتعلق بمجال السياسة وبما يمكن من إصلاح حال الأمة وإحداث نوع من التغيير الإيجابى لعناصر الرابطة السياسية».
وفى تعاطيه مع كتاب الشيخ على عبد الرازق المثير للجدل فى الفكر الإسلامى المعاصر نجد الدكتور سيف يؤسس لتقاليد علمية تبتعد عن لغة التكفير وإنكار الجهد.. فيرى «الإسلام وأصول الحكم» وقد أدى إلى حركة فكرية واسعة.
(3)
لقد طرح فى كتابه التأسيسى الكثير من القضايا مثل: الشرعية، ووظائف الدولة الإسلامية ونسق القيم والمقاصد.. ولعل من أهم ما يمكن أن نشير إليه أيضا هنا هو اقترابه من موضوعات مسكوت عنها فى الفكر الدينى العربى (المسيحى والإسلامى على السواء).. من هذه الموضوعات نشير إلى: «العدل» و«العمران» و«حرية المعتقد» و«حفظ النفس الخاصة والعامة».. وهى كلها مفاهيم اجتهد فيها منذ كتابه الأول.. وأخذ يطورها بدأب شديد فى كتبه اللاحقة مثل: العولمة والإسلام: رؤيتان للعالم»،
و«تأميم الدولة للدين: الزحف غير المقدس» والذى يمثل قراءة فى دفاتر المواطنة المصرية.. فالفكر الدينى فى الأغلب منشغل بالشكليات لذا لا نجد أحداً يتحدث عن الظلم الاجتماعى أو التوزيع العادل للثروة.. إلخ.. لقد أعاد الدكتور سيف الاعتبار لهذه المفاهيم بل ويتواصل مع كتابات معتبرة مثل التى أبدعها الفقيه المصرى الليث بن سعد وتناول فيها قضايا غير مطروقة مثل: الكفاف والكفاية.. والتى يعيد طرحها الدكتور سيف برؤية معاصرة ولغة حديثة وفكر منفتح جدلى.
(4)
يطرح الدكتور سيف رؤيته التى يطرحها فى إطار نسق متكامل..بيد أنه دائما يطرح هذه الرؤية وما تحمله من نسق فى سياق جدلى ومتصالح مع الرؤى الأخرى.. رؤية ليست صراعية.. ما يعنى التواصل والانفتاح والاشتباك الإيجابى رغم أى اختلاف.. وهى الروحية والذهنية التى يتسم بها العزيز الدكتور سيف والتى لم تتغير منذ تعارفنا قبل عشر سنوات تقريبا وتشاركنا فى الكثير من الندوات واللقاءات.. وكيف لا يكون سلوكه كذلك وهو المهموم بفكرة الوطن، السفينة التى تحملنا معا.. حيث تلزمنا ثقافة السفينة بالحوار والتكافل فى مواجهة البطش والظلم والاستغلال.
تهنئة من كل القلب للأستاذ الدكتور سيف الدين عبدالفتاح المجدد والمتواضع على التقدير وعلى الجائزة التى شَرُفَتْ به.