كما هى العادة فى بلداننا تمر القضايا والموضوعات المهمة مرور الكرام، دون اهتمام أو إدراك لما تسفر عنه من تداعيات أو للتعلم من الدروس المستفادة.. فى هذا السياق صدر مطلع هذا العام كتاب «التطهير الثقافى: التدمير المتعمد للعراق».. حيث يعلن المخفى ويفصح عن كل ما هو مسكوت عنه فيما يتعلق بما جرى فى العراق عقب احتلالها.
الكتاب، وكما جاء فى مقدمة مترجمه د. محمد صفار، يشعرك بأنك تقرأ كتابا على غرار «التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا لمصر»، الذى ألفه فى عام 1896 ولفريد بلنت الذى ناصب بلاده العداء لسلوكها الاستعمارى الفج.. ولكن القارئ فى هذه المرة سوف يقرأ التاريخ السرى لاحتلال أمريكا للعراق.. وتأتى أهمية هذا الكتاب من أن الذى كتب مادته وأفكاره وأورد كل هذه المعلومات فريق بحثى من 13 باحثا من جنسيات مختلفة.
يقول المحررون فى مقدمتهم: «كان التدمير متعمدا، إذ استهدف مخططو الحرب بشكل واع ومقصود للغاية تدمير الدولة العراقية.. وقد قاموا بذلك بسبب أن العراق القوى وقف حجر عثرة أمام المخططات الأمريكية الإمبريالية والإصرار الإسرائيلى على الهيمنة الإقليمية المطلقة..».
ورصد المحررون كيف أنه فى سبيل النفط وما يمثله من أهمية استراتيجية لديهم كان الكيان الوطنى العراقى الوحيد الذى حظى بالحماية هو وزارة النفط العراقية بما تضم من سجلات.. وفى المقابل لم تعتن القوى العسكرية الغاشمة التى رفعت رايات الحرية والديمقراطية بحماية كنوز العراق الثقافية الفريدة أو ما يعبر عن رموز وإنجازات العراق الحديث.
وعلى مدى أجزاء الكتاب الثلاثة وصفحاته التى تتجاوز الثلاثمائة صفحة، يقوم الفريق البحثى بعرض رؤاهم وأفكارهم ويوثقون المعلومات المتنوعة.. ففى الجزء الأول وعلى مدى فصلين يشرحون الأسباب التى أدت إلى اتخاذ قرار القضاء على الدولة العراقية أولاً.. ويعرضون لفكرتهم عن التطهير الثقافى من منظور مقارن ثانياً..
ومن أهم ما ورد هنا التفاصيل الخاصة بما أطلقوا عليه: «نطاق التدمير الثقافى»، حيث يذكرون.. «بعد فهم الهدف الموجه أيديولوجيا الذى يتعلق بتفكيك الدولة العراقية، يمكننا الآن أن نلتفت إلى رؤية عامة عن التكلفة الثقافية والإنسانية لهذه السياسة، مثلما تعكسها الحقائق على الأرض. لا يمكن تفسير حجم التدمير ولا طابعه الممنهج كسلسلة من الحوادث من غير الممكن تداركها أو غير المترابطة أو المأساوية.
ففى نظرتنا الكلية، تنبع أحداث القتل والتدمير من ذلك الهدف ذى الطبيعة العنيفة للسياسة المتعلقة بإعادة خلق العراق بدلا من إصلاحه».. لقد كان المستهدف هو خلق عراق جديد متوافق مع الأهداف الأمريكية من خلال القضاء على الدولة بالتطهير الثقافى المتعمد.. وذلك من خلال تدمير الذاكرة التاريخية للدولة بتدمير أبعادها ومكوناتها التى تحافظ عليها وتعمل على استمراريتها: «الآثار، والمخطوطات القديمة، واللغات، والأديان، والروايات التاريخية، والهويات..».
فى هذا السياق ينتقل الكتاب إلى الجزء الثانى وعنوانه: «سياسة التطهير الثقافى على أرض الواقع والاعتداء على التاريخ الفريد للعراق».. وعلى مدى ثلاثة فصول يشرح الكتاب أولا تحت عنوان «علم الآثار واستراتيجيات الحرب كيف تم تدمير ونهب التراث الثقافى أثناء الحرب».. وثانيا تدمير التراث الثقافى للعراق بحقبه المتعاقبة: القديمة، والأكادية، والأورية والبابلية والحامورابية والآشورية والإسلامية.. وثالثا يسجل الكتاب الآليات التى تم اتباعها فى إلحاق الضرر بكل من: «سجلات بغداد ومجموعات المخطوطات، والمكتبة والسجلات الوطنية العراقية ومجموعات المخطوطات الإقليمية..إلخ».
ويأتى الجزء الثالث تحت عنوان «سياسة التطهير الثقافى على أرض الواقع».. ويضم خمسة فصول تلقى الضوء على فداحة ما جرى فى العراق من خلال دراسة حالات وجداول ووقائع وأحداث حيث ترصد أولا: استهداف الطبقة المثقفة: الأكاديميون كأهداف للقتل (مرفق فى نهاية الكتاب جدول تفصيلى للأكاديميين الذين اغتيلوا وقد قاربوا 500 أكاديمى).. وثانيا: عملية تطهير السجلات.. وثالثا: تخيير العقول العلمية والأكاديمية بين الموت أو الفرار.. ورابعا: رصد عملية تهجير العقول المتميزة.. وخامسا: رصد ما جرى للأقليات فى العراق من مسيحيين ويزيديين وتركمان.
«إن الغزو الأمريكى للعراق كان أكثر من مجرد غزو مسلح»، كما يشير الصديق الأستاذ الناشر المتميز عادل المعلم فى كلمته عن «الكتاب الوثيقة»، والذى يصدر عن مكتبة الشروق الدولية.. فأخطر ما جرى هو تدمير الذاكرة التاريخية التعددية للعراق.. حيث يؤكد الكتاب أن القضاء على الذاكرة يعنى تفكيك الدول ومن ثم سهولة الهيمنة عليها والقضاء على مستقبلها.