تحدثنا فى الأسبوع الماضى عن أن ملف مياه النيل، بعيدا عن الأمور الفنية الدقيقة، إنما يفتح معه الكثير من الملفات بداية من الإدارة السياسية للملف، كذلك رؤيتنا الإستراتيجية ليس فقط للقضية المثارة، وإنما للقارة الأفريقية ككل.. بالإضافة إلى التعليم كمجال لتأكيد الأهمية الحيوية للنيل فى حياتنا.. كذلك السياسة الزراعية المطبقة.. والديمقراطية من زاوية تبنى الشفافية فى الإعلان عن المسكوت عنه وإشراك الناس فى تحمل سؤولياتها بتدفق المعلومات والمشاركة فى صناعة القرار.
(1)
نزيد على ما سبق ومن خلال متابعة تفاعلات الملف.. أن أزمة مياه النيل تعكس ثلاث إشكاليات، بات سلوكنا العام فى تناولنا لشتى القضايا يتسم بها.. الإشكالية الأولى: هى التحرك المتأخر لمواجهة الأزمات.. بداية يتفق الكل فى «أننا فى حال أزمة».. وبالرغم من ذلك فإن المواجهة كما نرى خلال الأسابيع الماضية يشوبها الارتباك والتأخر فى مواجهتها وفقدان زمام المبادرة فى مواجهة التحركات والمواقف السريعة والمتتالية التى اتخذتها بعض دول حوض النيل بعد لقاء شرم الشيخ.
(2)
الإشكالية الثانية: أن الأزمة الراهنة لم تكن مفاجئة وإنما متوقعة منذ السبعينيات، نعم متوقعة منذ السبعينيات، الأمر الذى كان يستلزم عدم المفاجأة أو الارتباك.. فعلى المستوى الرسمى حذر الدكتور بطرس غالى فى عام 1979 من أن المنافسة على مياه النيل قد تصل إلى حد الصراع الذى قد يؤدى إلى وقوع حروب المياه.. وعلى المستوى العلمى نجد رشدى سعيد فى ندوة عقدت فى عام 1979 حول تنمية الأراضى الزراعية والصحراء يقول نصا «إن الماء يمثل موردا حرجا فى مصر فهو يشكل مع الطاقة عاملا كابحا رئيسيا فى التنمية المستقبلية لمصر. وإذا كان لمصر والسودان المنتفعان الأساسيان بالنيل أن يواصلا خططهما الوطنية بأى درجة من النجاح، فإنه لن يكون هناك ماء كاف متاح لتلبية الاحتياجات المتصاعدة».
(3)
الإشكالية الثالثة التى تؤكدها الأزمة: هى أن هناك فجوة بين الجهد العلمى والسياسات المتبعة.. وأنه لا يستفاد كما ينبغى مما ينجز على المستوى المعرفى والعلمى.. فالمُراجع للمادة العلمية التى أنجزت فيما يتعلق بملف النيل بأبعاده المختلفة سواء بعقول مصرية أو أجنبية سيجد كما متميزا فى هذا المقام على مدى الثمانينيات والتسعينيات.. فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن الإشارة إلى ما يلى:
– دراسة جون واتربرى (عمل مديرا لمركز الدراسات الدولية فى جامعة برنستون الأمريكية) المرجعية المعنونة: «هيدرو بوليتيكا وادى النيل» (1979).
– بحث رشدى سعيد «مستقبل الاستفادة من مياه النيل» (1988).
– أعمال الندوة التى نظمها مركز البحوث العربية حول «أزمة مياه النيل» (1988).
– «مشكلة المياه فى المنطقة والمفاوضات متعددة الأطراف» مجدى صبحى (1992).
– «حروب المياه: الصراعات القادمة فى الشرق الأوسط» لجون بولوك وعادل درويش (1993) وقامت بترجمته الهيئة العامة للاستعلامات فى 1995.
– «أزمة المياه فى المنطقة العربية: الحقائق والبدائل الممكنة» لسامر مخيمر وخالد حجازى (1996).
– «المياه مصدر للتوتر فى القرن 21»، للدكتور محمود أبو زيد (1998).
– «السياسة المصرية ومياه النيل فى القرن العشرين» لعبد لملك عودة (1999).
(4)
فى الدراسات السابقة وغيرها، طرح المتخصصون فى هذا المجال، أسئلة «مبكرة» وأجابوا عنها إجابات «مبتكرة» حول مستقبل مياه النيل.. تناولت هذه الأسئلة مستويات وجوانب عدة.. بيد أن السؤال الأهم فى نظرى كان: «ما هو مستقبل الأمر الواقع فى حوض النيل ومدى قابليته للاستمرار؟».. وهو السؤال الذى توقع بوضوح الأزمة التى نواجهها الآن وسبل التعاطى معها.. بل هناك من وضع مبكرا المسألة بشكل واضح من خلال السؤال التالى «هل تتحدى دول أعالى النيل الوضع القائم الحالى؟» (جون واتربرى 1996).
وها هو البعض يحذر من الآن عن موقفنا إذا ما نتج عن استفتاء حق تقرير السودان فى العام القادم نشوء دولة جديدة وما يترتب على ذلك من توزيع حصة السودان (راجع الصديق الأستاذ الباحث هانئ رسلان فى ندوة حول مياه حوض النيل أقيمت مؤخرا بالمجلس الأعلى للثقافة).. إنه نوع من التفكير المستقبلى الذى يجب أن نتبعه.
(5)
الخلاصة، أن الإشكاليات الثلاث المذكورة أصبحت من الملامح الأساسية لتعاملنا مع شتى الملفات: «التحرك المتأخر».. «التعامل مع الأزمات وكأنها تحل فجأة بالرغم من توقعها».. «الفجوة المتزايدة بين العلم والمعرفة وبين السياسات المتبعة».