طريقة «على بابا» التعليمية.. «حقيقة مش خيال»

تتضمن قضية التعليم كثيراً من الأبعاد.. بداية من فلسفة التعليم المتبعة.. والمناهج التى توضع وفق هذه الفلسفة.. والكوادر التعليمية المنوط بها تنفيذ المناهج بعد استيعاب الفلسفة التعليمية الحاكمة.. ومناخ العملية التعليمية أو البيئة التى تتم فيها العملية التعليمية من مبان وأفنية ومعامل وأدوات ووسائل إيضاح.

(1)

ويبدو أن ما كتبناه على مدى الأسابيع الماضية حول التعليم بطريقة «المذكرات» وطريقة «على بابا» وكيف أن هاتين الطريقتين ـ وغيرهما وما خفى كان أعظم ـ تؤديان بالضرورة إلى، ما أطلقت عليه، «فقدان الحاسة العلمية» على المستويات المعرفية والفكرية والعملية…إلخ،. وقد أثار ما كتبته الكثير لدى أهلنا وناسنا من القراء والأحباء الذين يلتقوننى على اختلاف المستويات، وقاموا بتقديم مساهمات متميزة حقا سوف نلقى الضوء عليها مجتمعة لاحقا.. ذلك لأن ملف التعليم «جاء على الوجيعة».. ولمس كل بيت فى مصر.

(2)

ولعل من أطرف المواقف التى تعرضت لها الأيام الماضية هو أننى كنت فى زيارة لأحد الأصدقاء، وكان أولاده يستذكرون دروسهم.. وأثناء حديثنا فاجأنى الصديق / الأب بقوله هل تعرف أننى تعرضت لنفس الموقف الذى تعرض له الولد الذى كان يتعلم بطريقة «على بابا» الذى ذكرته فى مقال الأسبوع الماضى.. فقلت له أستطيع أن أتصور ذلك فلقد أتيحت لى فرصة أن أطلع على المناهج من الصف الأول إلى السادس من التعليم الأساسى على هامش دراسة كانت تقوم بها زوجتى لرصد بعض القيم المتضمنة فى هذه المناهج.. ولكن قل لى بسرعة كيف حدث هذا؟

(3)

قال الأب: كنت أراجع لابنى منهج الدراسات الاجتماعية للصف الخامس الابتدائى وكانت الوحدة الثالثة تتحدث عن العصرين البطلمى والرومانى مع ذكر للفترة البيزنطية.. وفى هذا السياق ورد اسم القائد الرومانى الشهير «دقلديانوس»، حيث ذكر أن من ضمن مآثره ما يلى:

– أنه «نجح فى القضاء على ثورة المصريين فى الإسكندرية» (ص93).. وفى الجملة التالية مباشرة «ثم أحسن معاملة أهلها فبنوا له عمودا كبيرا عرف باسم عمود السوارى».

كان السؤال كيف يمكن أن يقال على حاكم وافد مستعمر أنه نجح فى القضاء على المقاومة المصرية الشعبية للمصريين. لقد جرى العرف أن يتم الافتخار بالمقاومة الشعبية ضد الدخلاء وحتى إن فشلت فى مهمتها.. كذلك كلنا يعرف كيف تشيد المبانى للحكام وفى أى سياق، لهذا أبدع المصريون الفن القبطى تعبيرا عن فن الشعب فى مواجهة فن الحكام (راجع دراستنا فى هذا المقام فى الآخر.. الحوار.. المواطنة)..المفارقة أنه بداية من الصفحة 102 تضمن المنهج صفحات طيبة عما سماه الحقبة القبطية.. بيد أن دقلديانوس فى هذه الصفحات قد وصف بما يلى:

– عرف عصره بعصر الاضطهاد الأكبر.. وأن التقويم الكنسى قد بدأ بسنة ولاية هذا الإمبراطور تخليدا لتاريخ الشهداء، الذين استشهدوا على يد هذا المضطهد.

(4)

سألنى الأب هو «دقلديانوس» طيب ولا شرير؟.. فبحسب الرواية الأولى على التلميذ أن يرد إيجابا فى ورقة الامتحان والعكس بحسب الرواية الثانية.. وبالطبع سيطلب من التلميذ أن يفعل ذلك.. وسوف تكون الطامة الكبرى ـ يقول الأب ـ لو تمرد الابن على هذا المأزق بأن دقلديانوس فى الأصل هو حاكم مستبد على المستوى السياسى وأنه مُضطهد على المستوى الدينى.. وفى النهاية استطرد الأب نصا موجها الكلام لى:

– «إن ما كتبته عن التعليم بطريقة «على بابا» حقيقة مش خيال».

وبالطبع هناك أمثلة كثيرة يمكن ذكرها ولكن لا تسعها المساحة.

(5)

تعكس هذه القصة أن هناك خللا لابد من تداركه بشكل غير نمطى يتجاوز «البيروقراطية التعليمية» ـ هذا بالرغم من كل محاولات التطوير التى لا شك أنها تتجلى فى تطور الإخراج الفنى للمناهج بدرجة لا بأس بها.. إن السؤال الذى طرحه الأب هو فى حقيقة الأحوال بداية لعديد الأسئلة من عينة:

– هل التاريخ الذى يجب أن يدرس هو تاريخ الشعوب أم تاريخ الحكام؟

– هل الشعب الذى قاوم دقلديانوس مختلف عن الشعب الذى أقام له عمود السوارى؟

واقع الحال يثير ما سبق الكثير والكثير الذى أرى أنه جدير بأن يحظى بالاهتمام.. وأن التطوير دون فلسفة حاكمة لا يعنى شيئا.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern