تعليم المذكرات وفقدان «الحاسة العلمية»

لم أكن أدرى عندما كتبت مقالى الأسبوع الماضى حول «التعليم بالمذكرات»، أنه سوف يلقى هذا الاهتمام.. ولكن يبدو أنه مس أزمة حقيقية نعانى منها بل ربما كارثة.. ولعل من أهم ما أثاره البعض حول ما جاء فى المقال، سواء فى تعليقات القراء الإلكترونية أو الحوارات المباشرة هو حديثهم عن ملامح «طالب المذكرات» أو الطالب الذى تعلم بالمذكرات، بعد تخرجه.. كيف سيكون أداؤه فى العمل، وكيف سيتعامل مع أولاده.. وكيف يمارس السياسة إذا أراد، وكيف سيكون نمط تدينه.. إلخ.

(1)

الإجابة المباشرة والصحيحة فى آن واحد أن الطالب الذى تعلم بالمذكرات سوف يتخرج ويسلك مع أسرته وفى عمله ونشاطه العام بمنطق المذكرات.. فلا حاجة به إلى الدخول إلى عمق الأشياء.. تكفى معرفة العناوين.. والتركيز على الخلاصة.. والأخذ بثقافة «هات من الآخر».. وكل من يحاول أن يقوم بالتفسير قليلا سوف يواجهه «المذُكراتى» (نسبة لمن تعلم بالمذكرات) بأنه يتفلسف.. وكل من يحاول أن يلقى الضوء بعض الشىء حول ما يبدو غامضا ويصبغ عليه قدرا من التحليل العلمى سوف يتهمه «المذُكراتى»، وبتهكم، «هو أنت حاتنَظَّر وألا إيه؟!» ثم يلحق هذه العبارة بأخرى مكملة لها «خليك عملى».. ويبدو أن العبارتين مرتبطتان ارتباطا شرطيا ببعضهما البعض..

(2)

«المذُكراتى»، ليس لديه وقت، فلقد علمته «المذكرات» أن يأخذ خلاصة الخلاصة التى تؤمن له تجاوز الاختبارات بنجاح قد يكون مبهرا فى بعض الأحيان وبمجرد الانتهاء من الاختبار يتبخر كل شىء.. فلسفة المذكرات لا تتيح التعمق فيما وراء ما يقرأ الطالب من معلومات.. ولا تدفع به إلى التساؤل.. يسأل عن ماذا والإجابات «المعُلبة» حاضرة فى المذكرات..

إنه فقدان «للحاسة العلمية»..

(3)

الحاسة العلمية التى تقوم على الملاحظة والتفكير الموضوعى النقدى وعلى إثارة التساؤلات وأن يكون السؤال المتكرر على الألسنة هو «ليه».. أو ما يعرف بثقافة «لماذا».. وأنا هنا لا ألوم الشباب بل أكرر ما ذكرته الأسبوع الماضى نقلا عن فؤاد زكريا الذى كتب مرة «أن الشباب فى كل بلد هو على ما يريده الكبار أن يكون».. أو بلغة أخرى أن الشباب هم صورة للواقع الذين يعيشون فيه ونتاج له وتعبير عن مؤسسات التنشئة فيها سواء كانت منغلقة أو متحررة..

(4)

وللتدليل على ما سبق (ولتقريب الفكرة) يعطى فؤاد زكريا أمثلة لنوعية موضوعات التعبير التى تطلب من طلبة البكالوريا الفرنسية (والتى دأبت مجلة الفيجارو على نشر أفضل ما يكتبه الطلبة لاحقا).. ففى إحدى السنوات كانت موضوعات التعبير ولاحظ عزيزى القارئ العناوين:

هل يمكن أن تقبل بلا تحفظ الرأى القائل بأن العمل مصدر الثروة؟

هل يكفى أن يكون لدى المرء منهج لكى يجرى بحثا علميا؟

هل نحن أدوات فى يد التاريخ أم نحن صانعوه؟

وبالطبع لا توجد عناصر يتبعها الطالب كما لا توجد إجابة نموذجية كما لا توجد مذكرات تتضمن موضوعات من هذه النوعية..

(5)

ويشير فؤاد زكريا بعد أن قرأ أهم هذه الموضوعات التى تم نشرها إلى مدى النضج والتعمق الذى عالج به شبان موضوعات معقدة كهذه.. فلقد كانت كتابتهم على مستوى المفكرين الكبار حيث تميزوا بعمق الثقافة ودقة التفكير والتخيل..

(6)

لا شك أنه متى كان النص التعليمى متميزاً والبيئة التعليمية متكاملة العناصر من حيث: «معلم يحفز على التفكير وليس حارسا للنص، ومناخ تعليمى يتوفر فيه المكان الملائم والوسائل المعاصرة، ومناهج ممتعة توسع الأفق وتفتح المسام الذهنية على كل ما هو جديد».. فإن هذا يعنى أننا سوف نحصل على طالب يمتلك الحاسة العلمية والتى تصبح جزءا من تكوينه الثقافى فتظهر فى لغته وتفكيره.. وليس «المذكراتى»..

(7)

والعكس صحيح بطبيعة الحال.. فبقاء نظامنا التعليمى على حاله يعنى انتشاراً أكثر لمراكز الدروس وللمذكرات و«ملازم» الأسئلة المتوقعة.. ويعنى ألا نعول كثيرا على المستقبل فطلبة المذكرات سيربون أولادهم ويديرون أعمالهم ويعملون بالشأن العام ويمارسون الدين بطريقة هات من الآخر.. ويحاولون معرفة كل ما يتعلق بشؤون حياتهم من خلال الأبراج وقراءة الطالع عن طريق الكمبيوتر باعتبارها وصفات جاهزة مثلها مثل «المذكرات».. أى طبيب هذا الذى يمكنه أن يجرى جراحة وقد تعلم بالمذكرات.. وأى مهندس ذلك الذى سيكون قادراً أن يؤسس ويشيد وقد تخرج بالمذكرات.. وهكذا..

يا سادة تعليم المذكرات يعنى فقدان الحاسة العلمية كما يعنى أن وطننا فى خطر..

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern