التعليم بالمذكرات..

كانت السيارات تسير ببطء شديد، كما هى العادة فى شوارع القاهرة هذه الأيام.. بيد أن الأمر طال أكثر من اللازم.. وظننا أن هناك حادثة تعطل السير.. ثم سرعان ما تبينا أن هناك طابورا بشريا ممتدا على أحد المحال التى لها أكثر من واجهة.. وكانت الغالبية الكبرى من الواقفين من الشباب والشابات.. وتملكنى الفضول لمعرفة سبب هذا الطابور.. فأوقفت السيارة وترجلت وهالنى ما رأيت..؟

(1)

وجدت المحل الواسع الكبير يبيع مذكرات دراسية لطلبة جامعة عين شمس.. فالمحل منفذ بيع لمذكرات الأساتذة فى شتى المواد ولكل السنوات الدراسية وذلك بحسب اللافتات المعروضة التى تنوه عن محتويات المحل.. واللافت أن المحل مجهز بشكل منظم حيث الأرفف مرتبة بحسب السنوات الدراسية والمواد العلمية.. وأسقط فى يدى.

(2)

وفى جلسة مع بعض الأصدقاء الذين لديهم شباب يدرسون فى جامعات مختلفة.. سردت ما شاهدته.. فكان رد فعل الشباب مزيجا من السخرية والدهشة على ما ذكرت.. فالمذكرات باتت الأساس الذى تقوم عليه العملية التعليمية.. وأنه لا وقت ولا مكان لغير ذلك.. فالمحاضرات و«السكاشن» يتم تلخيصها فى المذكرات مع أسئلة محددة تمثل إطارا محددا للامتحانات لا تخرج عنه.. المذكرات- بحسب الشباب- هى تعبير عن ثقافة «لخص» و«انجز».. فالمذكرة تتضمن المفيد والخلاصة.. وتغنى فى أحيان كثيرة عن حضور المحاضرات ففيها البركة.. ولا فرق فى ذلك بين جامعة بفلوس وأخرى مجانا- تجاوزا-، هكذا قال الشباب.. وكان سؤالى ألا توجد فرصة للنقاش مع أساتذتكم أو الذهاب للاطلاع فى مكتبة الكلية.

(3)

مرة أخرى تكرر رد فعل الشباب الذى تختلط فيه السخرية بالدهشة.. بيد أن هذه المرة كانت درجة السخرية أعلى كثيرا.. ويبدو أن لسان حالهم هو أنت من هنا ولا من هناك؟.. حاولت أن أستعيد بعض الهيبة بقولى أنا فقط أود أن أستوضح وأفهم.. فوجدت بعضهم لا يعرف أصلا مكان مكتبة الجامعة.. وبعضهم أكد لى أنه لا توجد مكتبة.. وأكد لى البعض الثالث أنه مرة وبسبب إصرار أحد الأساتذة على الذهاب للمكتبة اكتشف توقف تحديث المكتبة منذ أكثر من عقد من الزمان.

(4)

أما بالنسبة للحوار مع الأساتذة.. فأى حوار يمكن أن ينشأ فى ظل هذه الأعداد الكبيرة من الطلبة.. واضطرار الأستاذ أن ينصرف سريعا لأن لديه التزاما آخر.. كما أن المذكرة تتضمن كل شيء.. فهذه أوراق «جامعة مانعة» و«وافية شافية» تتضمن كل شيء.. «ده ورق سحر»- بحسب واحد من الشباب- المذكرة برشامة فيها الشفا- بحسب شاب آخر-.. مراجع إيه ومكتبة إيه: دماغك..!

(5)

إن خطورة ما نعرض له يكمن فى هذا التواطؤ الذى يتم بين كل الأطراف وقبلوا به طواعية.. فالقضية ليست فى أن التعليم فى خطر.. القضية هى القبول بذلك ومحاولة إيجاد حلول فى ظل أزمة التعليم.. ولعلى أتذكر ما ذكرته إحدى الصحف القومية فى نهاية 2007 من أن تكلفة الدروس الخصوصية فى مصر تصل إلى «22 مليار جنيه» فى السنة الواحدة، وهو رقم يقترب من الميزانية الحكومية المخصصة للتعليم.. أى أننا أمام تعليم رسمى يوازيه تعليم غير رسمي.. وبالمثل سوف نجد أن اقتصاد المذكرات ربما يقترب من هذا الرقم.

(6)

إن المجتمعات الحية هى مجتمعات ترفض التواطؤ فى شتى المجالات وبخاصة فى مجال مثل مجال التعليم.. فالقبول بتعليم المذكرات والدروس بدلا من تعليم الحوار والنقد والجدل والاطلاع والذهاب إلى المكتبة والرجوع إلى المراجع وإعداد البحوث والإبداع إنما يعنى أن وطننا فى خطر.

وأذكر فى هذا المقام أغنية «الجدار» لفريق البينك فلويد والتى جاءت كى تعبر فى مطلع الثمانينيات فى إنجلترا عن رفض الشباب للتعليم النمطى ولهيمنة جيل الكبار وكانت بداية لمراجعة شاملة لنظام التعليم فى إنجلترا.. فالشباب- بحسب الراحل العظيم فؤاد زكريا ـ «فى كل بلد هو على ما يريده الكبار أن يكون» أى يبدو أن هناك مصلحة أن يظل هذا الحال على ما هو عليه.

لذا فالطبيعى أن يتمرد الشباب على النمطية وعلى النظام التعليمى الذى يعلبه ولا يطور من إمكاناته.

وليس طبيعيا أن يقبل الشباب حالة التواطؤ الضارة.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern