«وقفيات» وطنية مدنية علمية وإعلامية

يقول عبدالله النديم: «لكى تبلغ الأمة القوة وتحرز المجد لابد من اتحاد أفرادها، فكل أمة اتحدت لها محبة الوطن.. واجتمعت قلوبها.. 
وأسست أعمالها على قواعد التعاون ودعائم الارتباط ونبذ التهاون فلا شك أنها تحرز قوة واقتدارا يجلب الخير العام».


(1)
كثيرون تحدثوا معى عقب تناولى لأزمة موقع «إسلام أون لاين» فى الأسبوع الماضى حول إمكانية الاكتتاب الوطنى للموقع كبديل للتمويل الخارجى.. وكان الحديث يتمحور حول سؤال أساسى هو لماذا لا يمول رجال الأعمال فى وطننا المصرى الجميل وهم كثيرون هذه النوعية من النشاطات.. وتصادف أننى بدأت أقرأ التقرير العربى الثانى للتنمية الثقافية الذى يصدر عن مؤسسة الفكر العربى، خلال هذا الأسبوع.. ووجدت أنه من ضمن الملفات الأربعة التى عالجها التقرير ملف «التمويل واستقلالية الإدارة فى التعليم العالى».. حيث ألقى الضوء على تجارب دولية فى تمويل التعليم العالى عن طريق الأوقاف Endowments، فى كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا، وكندا، وأستراليا، وتركيا.. ورأيت أنها تجربة تستحق القراءة والاستلهام فى مجال الثقافة والإعلام.

(2)
وتأتى أهمية ما جاء فى هذا الملف من أنه يعرض كيف أن التمويل الوقفى هو وحده القادر على حماية النشاطات ذات الطابع العلمى والثقافى والإعلامى الجاد والبناء.. وأنه يوفر مساحة من الاستقلال والحرية التى تضمن عدم التدخل وفق أهواء البعض أو التراوح فى التوجهات بحسب حالة الاستقطاب السياسى والدينى التى تسود.. وقراءة خبرة التمويل الوقفى فى هذا المقام تقول إنه يؤمّن أربعة أمور أساسية وذلك كما يلى:
تحقيق الجودة، 
ترقية شأن التعليم الجامعى، 
استقلالية الجامعة الإدارية والمالية
الحرية العلمية والمعرفية.
هذا بالإضافة إلى المال اللازم الذى يحقق أهداف المنشأة التعليمية وطموحاتها ويضمن لها كوادر متميزة فى شتى مجالاتها ومستوياتها.

(3)
وتقول لغة الأرقام إن حجم وقفيات أول عشر جامعات فى أمريكا يقترب من 160مليار دولار (نعم مليار).. نصيب جامعة هارفارد منها 37 مليارا، وجامعة يال 23 مليارا، وجامعة ستانفورد 20 مليارا.. أما فى إنجلترا فحجم وقفيات أول خمس جامعات يقترب من 15 مليار دولار نصيب كامبردج منها 2.8 مليار وجامعة أوكسفورد 7.5 مليار دولار.
وفى الجامعات التركية فإن 30% من إيرادات جامعة بيلكنت تأتى من وقف الجامعة.. وتدير هذه الوقفيات أجهزة إدارية مستقلة دورها تعظيم المال قدر الإمكان ووضعه فى خدمة العلم والمعرفة.. فجامعة هارفارد على سبيل المثال وبحسب التقرير تدير وقفياتها وأصولها شركة تمتلكها الجامعة. 

(4)
وتجدر الإشارة إلى أن الوقفية قد تكون فردية وقد تكون من مصادر مجتمعية متعددة، لكنها تدار من قبل جهاز معين مستقل فى إجراءاته، ويقول التقرير إن هذا الجهاز «يقع تحت سلطة الجامعة، وأن الجامعة تختار (فى الوقفية غير المقيدة) أبواب إنفاقها تبعا لحاجاتها، وبالتالى فالوقفية الجامعية هى فى خدمة الجامعة (رسالتها، أهدافها، برامجها)، وليست الجامعة فى خدمة الوقفية لتحقيق أجندات معينة».. 
وبهذا المعنى تكون الوقفية الجامعية ليست مصدرا فقط لإيرادات إضافية، وإنما كما يقول التقرير: «ولشراكة اجتماعية فى توفير هذه الإيرادات، بل هى شراكة مجتمعية فى تحمل شؤون إدارة التعليم العالى (الجامعات)، وهى بهذا المعنى تجسد الشراكة المجتمعية فى تحمل مسؤولية التعليم العالى، وهى بهذا المعنى نظام فى تمويل الجامعات وإدارتها فى الوقت نفسه، أساسه تأمين استقلالية الجامعة الإدارية والمالية والأكاديمية بما فى ذلك المحافظة على الحريات الأكاديمية وعليه تجد كل التيارات والاتجاهات الفكرية حاضرة فى دور العلم.

(5)
فى ضوء ما سبق أتصور أننا نحتاج إلى تبنى حملة وطنية لتشجيع الاكتتاب العام ولتخصيص المال ووقفه على نشاطات ذات طبيعة نفعية عامة وبخاصة فى المجالات الثقافية والعلمية والإعلامية.. وإدراك أن هذه النوعية من النشاطات تمثل ما يعرف بالقوة الناعمة للوطن.. وأن الاهتمام المتصاعد بتشكيل وقفيات فى المجال الخيرى والدينى من أجل الفقراء والمرضى هو أمر محمود ولاشك.. بيد أنه يجب أن يرافقه حرص على تكوين وقفيات مدنية تدعم الأنشطة الثقافية والعلمية والإعلامية ذات الرسالة تمييزا عن الأنشطة التى تهدف للربح وهو أمر يضمن الجودة ويحرر الإعلام والثقافة والمعرفة بعض الشىء من التحيزات والأهواء والتعصب لتوجهات بعينها.
إن الخبرة المصرية أدركت هذا منذ وقت مبكر.. وسارعت إلى تخصيص ما تسنى لها من أجل تأسيس ما يحقق الخير العام, كما قال النديم الذى قام هو بتأسيس جمعية من أجل عصبية الفقراء من أجل التعليم.. وعلى هذا الدرب تأسست الجامعة المصرية والجمعية الجغرافية وجمعية الآثار القبطية.. الخ.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern