يقول باولو كويلهو (الأديب البرازيلى العالمى) على لسان فارس النور مناجيا قلبه: «لقد مررت بكل هذا من قبل».. ويجيب القلب: «أجل لقد مررت بكل هذا من قبل، لكنك لم تتجاوزه».
(1)
تحدثنا كثيرا عن النزاع الدينى فى مصر و«تاريخه» منذ مطلع السبعينيات، والمراحل الأربع التى مر بها بداية من المرحلة العنفية من قبل جماعات العنف المسلح، ومرورا بمرحلة الاحتقان المجتمعى نتيجة التأخر فى معالجة تداعيات المرحلة الأولى حيث تتحول كل واقعة ذات طابع مجتمعى إلى نزاع دينى لمجرد أن أحد طرفى الواقعة مسيحى والطرف الآخر مسلم، ثم مرحلة السجال الدينى والتنابذ بالأديان وما يترتب على ذلك من نفى للآخر الدينى سواء معنوياً أو مادياً، وأخيرا ما أطلقنا عليه مرحلة التناحر القاعدى على مستوى المواطنين العاديين والتى بدأت مع واقعة العياط وكانت ذروتها نجع حمادى.. وكنا نظن أنها ستكون آخر الأحزان وذلك لكل ما رافقها من ملابسات.. ولكن ما لبثت أن وقعت أحداث مرسى مطروح.. ما الجديد؟
(2)
يمكن القول أنه لا جديد من حيث إن الواقعة هى صورة كربونية من وقائع حدثت عبر التاريخ على مدى أربعة عقود منذ أخميم (1970) والخانكة (1972).. فالسيناريو هو نفس السيناريو.. رغبة فى التوسع من قبل طرف من خلال أرض أو سور أو مبنى.. وإشاعة تسرى.. وعنف يحدث.. ونُستغرق كلنا فى التفاصيل الصغيرة.. ثم يناشدنا البعض بالتهدئة.. ويتحرك البعض الآخر لاحتواء الموقف من خلال تطييب الخواطر.. ولا أحد يعرف ما الذى حدث.. ولماذا.. ومن المخطئ وعلى من تقع المسؤولية.. وتتعدد الكتابات وتعقد الندوات ويجتهد المجتهدون.. ثم يخمد كل شىء فى انتظار الواقعة الجديدة.. أى أن الواقعة التى جرت منذ ثلاثة أيام تاريخيا لا جديد فيها.
الجديد هو «الجغرافيا».. حيث انتقلت أحداث النزاع الدينى إلى غرب مصر المحروسة إلى مرسى مطروح بحصيلة أولية تقدر بثلاثين مصابا.
(3)
لقد ارتحنا كثيرا للتفسير الذى يقول بأن النزاع الدينى يكثر فى مناطق بعينها ولأسباب تفرضها طبيعة هذه المناطق، وتعددت الدراسات التى تصب فى هذا الاتجاه. ودعم هذه الفرضية تركز العمليات التى كانت تقوم بها مبكرا الجماعات الجهادية فى الصعيد.. ولكن مع مرور الوقت لم نلتفت إلى أن أحداث النزاع الدينى بدأت، وبصورة ناعمة، تمتد إلى كل بقعة من ربوع مصر، تقريبا، إلى العاصمة ومنطقة بحرى والإسكندرية وأخيرا مرسى مطروح.
إن هذا الامتداد الجغرافى للنزاع الدينى لهو أمر جدير بالتأمل والدراسة لأنه يتجاوز حصره فى مناطق محددة ولأسباب بعينها، وأن جغرافيا التوتر الدينى قد انتشرت فى جسم مصر أم الدنيا.. وباتت كل بقعة من بقاعها تجمع بين المواطنين المصريين من المسلمين والمسيحيين مشروعاً محتملاً للنزاع.
(4)
إن أهم ما يجب الانتباه إليه هو أن «الاستمرار التاريخى» للنزاع الدينى، قد أدى إلى «الانتشار الجغرافى» للنزاع.
وإن عدم قدرتنا على تجاوز النزاع الدينى تاريخيا جعلنا نتعايش معه.. الأمر الذى سمح مع مرور الوقت بأن يمتد النزاع جغرافيا إلى ربوع مصر.
(5)
إن النظرة التحليلية السريعة تقول إن مصر تواجه إشكالية حقيقية فى العلاقات الإسلامية المسيحية علينا أن نواجهها بكل أمانة.. ومن قبل كل الأطراف دون استثناء.. فلقد بات الحيز العام أو المجال العام (بلغة العلوم السياسية) والذى أعرفه بأنه «مكان لقاء المختلفين»، يضيق بمكوناته.. فبدلا من أن يتنافس المصريون فى المجال العام سياسيا ومدنيا لمواجهة القضايا والإشكاليات الجديرة بأن ينشغلوا بها معا من تغيير سياسى واقتصادى، والتعاطى مع الأزمات التى باتت مزمنة وتمثل تهديدا حقيقيا لمستقبل هذا الوطن: من تناقص للموارد المائية، ولمصادر الطاقة، والبطالة، والأمية، والزيادة السكانية، وضعف مستويات التعليم والصحة… إلخ.. نجد المصريين وقد أصبحوا يتنافسون على أساس دينى فى المجال العام.
(6)
ويبقى السؤال.. هل يمكن أن تواصل الجماعة الوطنية مسيرتها فى ظل نزاع دينى متكرر.. ألا تكفى أربعة عقود من النزاع المستمر، ألا يمكن أن نستهل العقد الخامس وقد تجاوزناه.. هناك الكثير من الأفكار والمقترحات التى كانت محل اجتهاد من الكثيرين بيد أن الأمر يحتاج بالإضافة إلى هذه الاجتهادات إلى نوع من المصارحة والمكاشفة لتجاوز «التكلس» الذى حدث على مدى عقود.. فلقد صارت هناك ثقافة «مانعة» ترى فى بناء الكنيسة أمرا غير مقبول.. كما صارت هناك ثقافة «متحفظة» من أن هناك ما يتهدد الإسلام.
إن قراءة بعض مما يتم تداوله فى الإعلام الإلكترونى لا يثير القلق فقط وإنما الخوف.. وهو ما يفسر لماذا بالرغم من مرورنا بكثير من النزاعات الدينية لا نستطيع أن نتجاوزها بل نجدها تنتشر جغرافيا..وهو ما يستدعى أن يتحمل كل طرف مسؤولياته.