النزاع الدينى تهديد للدولة الحديثة

(1)
يقول الشاعر: 
أرى بين الرماد وميض نار ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعيدان تذكو وإن الحرب أولها الكلام


(2)
فى هذا المكان منذ أكثر من سنة ونصف كتبت مقالا بعنوان: «التوتر الدينى تجاوز حد الأمان» (يوليو 2008)، وفيه ذكرت أن التوتر الدينى قد دخل مرحلته الرابعة التى أسميتها «مرحلة التناحر القاعدى»، وهى مرحلة عنف المواطن العادى تجاه شريكه فى الوطن المغاير له دينيا.. وهى مرحلة تختلف نوعيا عن التوتر الدينى فى مرحلته الأولى: مرحلة العنف الدينى الموجه من جماعات العنف المسلح تجاه الأقباط، التى نتج عنها المرحلة الثانية، مرحلة الاحتقان المجتمعى، وتحول كل حادثة اجتماعية أحد طرفيها مسلم والآخر مسيحى إلى حادث دينى، والذى زادها احتقانا وأدى إلى الرابعة التى نعانى منها الآن هو وقوع المصريين فى فخ السجال الدينى.
جرى كل هذا فى مصر أمام أعيننا.. حادثة تلو أخرى، كان همنا الأول هو التهدئة وأن «نكفى على الخبر ماجور»، وإطفاء المرئى من النار.. لم ندرك أن النار لم تزل مشتعلة تحت السطح وتزداد اشتعالا فى النفوس.. وأن الحريق فى واقع الأمر يمس أركان الدولة الحديثة.

(3)
لم ندرك أن هناك فرقا بين المعالجة التى تتم بقيم وأساليب ما قبل الدولة الحديثة من خلال الجلسات الودية حيث تطييب الخواطر واتباع منطق «خليها عليك إنت شوية وعليك إنت شوية»..وبين أن تمارس الدولة الحديثة دورها من خلال إجراءات عاقلة ورشيدة فى إطار سياسات عامة متكاملة فى مجالات التعليم والإعلام والثقافة.. ولم ندرك لحظة أن قبولنا للحلول العرفية- رمزيا على الأقل- هو تفريط فى إعمال القانون الذى هو جوهر الدولة الحديثة وأحد أسس شرعيتها.. 
ونذكر هنا أن الجبرتى وبالرغم من تحفظه على الحملة الفرنسية من جانب إلا أنه كان معجبا بتوخيهم احترام القانون وتحقيق العدل من جانب آخر.. مدركا أن القانون الذى يتم إعماله بحسم وسرعة دون تمييز هو أحد مظاهر انتقال المجتمعات إلى الحداثة، وأحد أهم أرصدة الدولة الحديثة.. 
وكان من أهم ما أكد عليه بناة النهضة المصرية هو القانون فكان الحرص على تأسيس المدرسة القانونية المصرية.. بيد أنه فى مواجهتنا للنزاعات الدينية فضلنا فى السنوات الأخيرة أن ننحاز لكل ما يناقض الدولة الحديثة.. وهو ما لفتنا النظر إليه عقب حادثة العياط وبدلا من تشكيل لجنة تقصى حقائق برلمانية كما فعلنا فى سبعينيات القرن الماضى فضلنا جلسات العرب، ما يمثل تراجعا عن تقاليد الدولة الحديثة إلى ما قبلها.

(4)
كما لم ندرك أن المجتمع الذى ينزلق نحو السجال الدينى إلى هذه الدرجة، وتخرج فيه النقاشات الخاصة بمقارنة الأديان إلى الشارع، إنما يعنى سهولة أن يكفر البعض البعض الآخر انتصارا لما يؤمن به وأن ينفى بعضنا البعض بالتالى.. وهو ما قلناه قبل أسابيع فى مقالاتنا عن مستقبل العلاقات الإسلامية المسيحية فى مصر (ديسمبر 2009).. ورحم الله أستاذنا وليم سليمان قلادة عندما قال فى الثمانينيات أن العنف يبدأ فكرا..والنفى المادى يبدأ بتكفير الآخر.. الإشكالية إن هذا السجال يتم فى أسوأ صوره ودون اطلاع على جديد المناهج والآليات العلمية فى مجال مقارنة الأديان وباستعادة إنتاج أزمنة الانحطاط فى هذا المقام.. 
لقد أعجبتنا هذه اللعبة وتواطأنا جميعا عليها إما بالمشاركة فيها أو الصمت عليها، وفجأة وجدنا أنها تجتذب شرائح اجتماعية وجدت فيها متنفسا لكثير من أزماتها.. ولم ندرك أن الحرب أولها الكلام.. وأن المجتمع الذى يقوم بتصنيف من يعيشون فيه على أسس دينية فقط، إنما يعنى تهديد أركان الدولة الحديثة للخطر، لأن إحدى أهم سماتها هى أن الرابطة التى تجمع بين مواطنيها أكثر تعقيدا من الرابطة الدينية وحدها..فالمواطن المسلم والمواطن المسيحى قد تكون هناك روابط أخرى- غير الدينية- تجمعهما معا مثل الرابطة المهنية والطبقية…إلخ، وهو ما أدركه الإمام محمد عبده فى مطلع القرن العشرين.

(5)
فى هذا السياق تأتى كارثة نجع حمادى، ووجدنا مشهدا مجتمعيا يعكس واقعا- على الأقل فيما رأيناه وسمعناه من أطراف عدة- لا يمت بصلة للدولة الحديثة.. حيث طلت علينا قبلية واضحة.. وكلام حول العزوة وأن أصوات العزوة تغنى عن أصوات الأقباط.. وعن حماية العائلة لأحد الجناة فى مواجهة القانون.. وتبلور قوى فى الواقع تقوم على التداخل بين الدينى والقبلى والثروى تتحرك خارج المجال العام بحسابات ضيقة تجور على الصالح العام.. وليس السياسى والطبقى فى إطار المجال الوطنى الجامع بغير خصومة مع الدين والتدين.
كل هذا يعكس كم ابتعد بنا النزاع الدينى عن الدولة الحديثة. إن التراكم والتراخى يسحب الكثير من رصيد الحداثة. وهو ما يجب الانتباه له.. ويتواصل الحديث.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern