تشهد مصركثيراً من المواقف والأحداث التي تعكس فى مجملها التناقض الذى نعيش فيه ويمثل إعاقة حقيقية للتقدم ..تناقض بين منظومتين منظومة تجديدية وأخرى تقليدية ..تتسم الأولى بالمؤسسية والقبول بالقانون مرجعية حاكمة للجميع والتأكيد على إعمال العقل والأخذ بالتنظيم والمعرفة العلمية .. أما الثانية فتقوم على الأبوية (كبير القرية أبا العمدة) والشخصنة, والعرفى والبدائى كذلك الفهلوة والتواكل والركون الى الغيبيات.. إنه التناقض الذى وصفه أحد العلماء البريطانيين مرة (تشارلز سنو) من خلال محاضرة ألقاها عام 1959 عرفت باسم “الثقافتان”, فى معرض تحليله للمجتمع البريطانى آنذاك, حيث لاحظ أنه يتسم بالانقسام بين ثقافتين: الأولى “علمية متجددة” والثانية “تقليدية راكدة”.
وتشير تجارب الآخرين فى الغرب الأوروبى وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى أن التقدم يتحقق بدعم صيغ التجديد.. وأن أخطر ما يمكن أن تقع فيه المجتمعات هو ما يمكن أن نطلق عليه “التجاور” بين القديم والجديد.. حيث يتحول الجديد إلى مجرد قوالب يعاد من خلالها إعادة إنتاج كل ما هو قديم ومتخلف وبال.. كيف؟
(2) فى محاولة لتقريب الفكرة سوف نرصد بعض المظاهرللتدليل على ما سبق.. هل ينكر أحد أنه لدينا انتخابات.. وأنها من الناحية الإجرائية والتنظيمية مستوفاة الشروط, بيد أن الملاحظة المتأنية تقول إننا مازلنا عندما نريد أن نعبر عن تأييدنا لمرشح من المرشحين فإننا نبايعه جماعيا بالرغم من أن الانتخاب فى فلسفته يقوم على الإرادة الحرة للناخب وفق برنامج مطروح.. فالمرشح الذى تتم مبايعته لا يعد مرشحا يعبر عن بنية مؤسسية انتخابية وعملية ديمقراطية مركبة أو ما يمكن تسميته “المرشح البرنامج” الذى يهدف لتحقيق الأفضل للمواطنين, وإنما هو – في الواقع- “المرشح الأب أو الراعى” لأبناء ورعية.. يمكن قياس ذلك على أى مستوى من المستويات الانتخابية التى تعرفها مصر.
مظهر آخر حدث هذا الأسبوع حيث اجتمعت الجمعية العمومية لأحد الأندية الرياضية لحل مشكلة عالقة بين النادى وأطراف أخرى.. وبعيدا عن لب المشكلة المثارة, فإن طريقة التعاطى معها والنهاية التى بلغتها تثير الكثير من الملاحظات.. فوفق التغطية الصحفية تجد الحرص على تأكيد أن الاجتماع عقد بحسب القواعد القانونية المتعارف عليها والبنود التى وردت فى اللائحة المنظمة و بدلا من أن يجتهد الأعضاء في إيجاد حلول وبدائل متعددة للمشاكل نجد الجمعية العمومية تناشد رئيس الدولة التدخل.. والسؤال ما فائدة القوانين واللوائح المنظمة.
وتوضح أيضا الإعلانات مدفوعة الأجر التى يشكر فيها الأفراد بعض المسؤولين لأنهم يسروا لهم بعض الأمور الامر الذى يعكس أن الحق لا يتم تأمينه فى إطار نظام مؤسسى متعارف عليه بحيث يصل لمستحقيه وفق معايير يضمنها الدستور والقوانين واللوائح وأنما وفق منح تمنحها سلطة أبوية.
وتؤكد المعالجة التى تتم بها كثير من الأحداث – وكما شاهدنا مؤخرا- أن التحرك ما كان ليحدث- وبحسب ما ورد فى الكثير من وسائل الإعلام- إلا بعد توجيهات فلان وعلان من عناصر السلطة.. فالكبير لابد أن يعطى شارة البدء حتى في الملمات.. وهو ما يوحي بأن الجهات المختلفة تفتقد المؤسسية التى تمكنها من العمل ذاتيا فى ضوء اختصاصاتها والتكليفات المكلفة بها وتفويض عناصرها كى يتحرك كل واحد فى موقعه فى ضوء صلاحيات مقننة سلفا بغير انتظار لتوجيهات من أعلى.
(3) أتصور أن كثيرين يتفقون معى فى أن هناك خللا ما يعتري هياكلنا المختلفة.. نعم لدينا من حيث الشكل بنى تبدو حديثة وتشابه الموجود فى الدول التى قطعت شوطا فى التقدم ولكنها من حيث الجوهر لم تزل تدار بذهنية دوار العمدة حيث لا يمكن لأى أمر مهما كان صغيرا أن يحدث بغيرأن يعرف كبيرالدار.. وهو أمر لم تنج منه بعض الشركات التى تقترب فى تكوينها من الشركات العالمية..ويبدو لى أن النظام القيمى- الثقافى السائد لم يزل يدعم قيمة الأبوية على حساب المؤسسية.. فالأبوية لا تسمح بمشاركة الأب مسؤولياته بينما المؤسسية تتيح وفق عقد يتم التراضى العاقل عليه, أن يكون لكل عنصر دوره.. وعليه فإن العلاقة بين الأب وأولاده تصلح فى إطارها الطبيعى الذى سنه الله ولكن لا تصلح للتطبيق فى إطار ما يعرف بالمجال العام حيث العلاقه تقوم على المواطنة والمؤسسية.. حيث القانون والمحاسبة والتداول والتفويض والمشاركة.. وهنا يتحقق التقدم.