تغطية المصالح

(1) “المصالح ولا شئ غير المصالح”.. مقولة للمفكر المغربى محمد عابد الجابرى ..بيد أن هناك من يحاول أن يغطى على المصالح وأى صراع يدور حولها, بأن هذا الصراع هو دينى أو مذهبى.. وهو مانظن أن القوة العالمية المنتصرة, منذ تفكك الاتحاد السوفيتى, قد نجحت فيه, وهو أن تحول النظر عن طبيعة الصراع وجوهره وذلك باستعادة “المقدس” (بحسب برتران بادى)إلى العلاقات الدولية.. أو الاستعانة بالدين أو المذهب لتفسير أى صراع .. واستبعاد أى تفسير عقلانى يحاول أن يقوم بتحليل طبيعة الصراع الذى ما إن نرفع عنه الغطاء الدينى حتى يظهر لنا أنه يخفى الكثير

ونسأل: هل الانقسام بين العالمين الإسلامى والمسيحى – خاصة بعد 11/9, ومحاضرة بابا روما الشهيرة – هو انقسام دينى بالفعل أم أن الدين يستعمل كغطاء للتعمية عن جوهر الصدام الذى فى حقيقته متعدد ومتداخل الأبعاد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.. وعندئذ تقتضى الدقة ألا نقول إنه صراع بين العالمين الاسلامى والمسيحى وإنما صراع بين البعض فى داخل كل عالم متناقضى المصالح .. بدليل وجود بعض آخر فى كل عالم متماثلى المصالح.
(2) لقد تناول كثير من الدراسات الموضوعية العلاقة بين الدين -الهوية- الخصوصية والعولمة (التى لا يصنف أصحابها من ضمن الذين يقومون بأبحاث من أجل تبرير وتمرير المخططات السياسية.. وإنما هم باحثون معتبرون مثل جيدنز و باربر وطارق على و بيتر باير و كازنوفا, ومن منطقتنا أنور عبد الملك وجورج قرم وآخرون), وأشارت هذه الدراسات إلى أن القوة المنتصرة وجدت أن من مصلحتها أن تستدعى الدين للتغطية على مشروعاتها فى السيطرة على مصادر الثروة والهيمنة على العالم وتدعيم الطابع الدينى للصدام لدى الطرف المتضرر. واللافت أن هذا الاستدعاء لم ينتج عنه أى تجدد أو تطور. – فقهى أو لاهوتى- فى الرؤى الخاصة بالعالم والإنسان وبالاشكاليات المطروحة, ما يعين فى إنتاج رؤى مركبة منفتحة كما حدث فى أمريكا اللاتينية ودول آسيا التى تقدمت الإسلامية منها والبوذية والكونفوشية والهندوسية.

وأعادت نخبنا فى الداخل إنتاج هذه الآلية.. وبدلا من الحديث عن حق المظلومين بغض النظر عن دينهم أو مذهبهم بات الحديث عن حق كل فئة بمعزل عن الأخرى وهو منطق لا يساعد على بناء دولة حديثة للجميع بقدر ما يصب فى تكريس كيان طائفى تنغلق كل فئة فيه على ذاتها فى مواجهة الأخرى من جهة, وبقاء الأمر الواقع على ماهو عليه دون حراك من جهة أخرى.. إلا أن قراءة مغايرة نحتاج إليها… كيف؟
(3) لقد صارت حركة الأفراد فى داخل المجتمع الواحد .. لا حركة بين مواطنين تختلف أو تتفق مصالحهم بحسب مواقعهم فى البناء الاجتماعى والاقتصادى, وإنما حركة بين أفراد تنتمى كل كتلة منهم إلى هوية دينية أو مذهبية .. أى أن الدولة لم تعد هى الدولة الجامعة للمواطنين بغض النظر عن اختلافاتهم وإنما هى تجمع: دينى موزع بين أغلبية وأقلية (الحالة المصرية) – لطوائف على أساس دينى ومذهبى(الحالة اللبنانية)- لطوائف على أساس دينى ومذهبى وقومى وإثنى(الحالة العراقية) – لأشكال من التنظيم أولية (الحالة السودانية).

وهكذا ما أسهل أن يتحول أى صراع بين الأفراد فى داخل الكيان الواحد إلى صراع مسيحى إسلامى, أو سنى شيعى, أو كردى عربى.. ولا يلتفت أحد لماذا يكون سقف هذه الصراعات دوما الطبقة المتوسطة.. ففى الأغلب تتفق مصالح الشرائح العليا من كل فئة مع بعضها البعض , وتستبعد أن يكون الاختلاف فى الشرائح الدنيا على أسس دينية أو مذهبية إلا بمقدار ما يبقى الواقع على ما هو عليه.. وبمقدار ما يحافظ على المصالح القائمة وتعبئة الجماهير على هذا الأساس. إنها حلقة خبيثة سوف تستمر طالما عجزنا عن دعم بناء الدولة الحديثة.. وطالما بقيت حركتنا تعيد إنتاج نفس الرؤى و الآليات, الأمر الذى يحول دون إدراك الحقيقة.. فتستمر التغطية والتعمية.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern