الحلم ببلد مختلف

(1) “التاريخ لنا..وهو من صنع الشعوب.. لا الجريمة ولا القوة تستطيعان إيقاف سير التطورات الاجتماعية..”
هذه الكلمات جزء من الخطاب الأخير, الذى أطلقه السلفادور الليندى, رئيس تشيلى, إلى الناس قبل اغتياله بدقائق فى الانقلاب الشهير الذى قاده الجنرال أوجستوبينوشيه فى سبتمبر 1973, لقد أصبحت هذه الرسالة أقرب إلى النبوءة, ليس “لتشيلى” فحسب بل إلى دول القارة اللاتينية.

فمنذ مطلع التسعينات تشهد أمريكا اللتينيةحراكا سياسيا “حقيقياً” وليس “متخيلاً” يقوم على التعاطى الجاد مع مشاكل الناس من جهة, ودعم الديمقراطية والتعددية والعدالة من جهة أخرى.

لقد عانت دول أمريكا اللاتينية من أنظمة حكم ديكتاتورية, ومن تبعية استعمارية مباشرة وغير مباشرة ومالية وصناعية وتقنية, كما عانت من استخدام الدين كسلاح أيديولوجى ناجح فى يد السلطات القمعية, لتبرير ممارسات السلطات الحاكم من خلال نشر القيم السلبية, وزرع روح الشعور بالذنب لدى الفئات الشعبية, بحيث يصبح الظلم والاستبداد والاستغلال فى نظرها وكأنه قدر لا فكاك منه, أو عقاب عادل من السماء لخطيئة أزلية, لا أحد يعلم بالضبط متى وأين ارتكبت.. لقد كانت الطغمة الحاكمة تعبر عن أقلية تعرف بـ “الكريول”, وهى النخبة الممثلة لكبار مالكى الأرض الزراعية والهيراركى الدينى, مما حتم عليهم أن يلعبوا دوراً محافظاً يخدم تلك القطاعات فى الحفاظ على الوضع القائم وإهمالالجماهير العريضة. لقد امتد هذا الأمر على مدى قرون, إلى أن بدا الحراك السياسى يؤتى ثمارهمع نهاية الثمانينيات.

(2) فى هذا السياق حدثت تغيرات نوعية فى كل من تشيلى والبرازيل وبوليفياوفنزويلا والإكوادور.. وأخيراً الباراجواى فى الأسبوع الماضى, حيث انتخب فرناندو لوجو, الملقب بـ “أسقف الفقراء”رئيساً للباراجواى.. لقد كان نصيب هذا الحدث فى إعلامنا مجرد خبر على الرغم من أهميته.. من أين تكم الأهمية؟
 يمثل فوز لوجو نهاية لحكم الحزب الحاكم, الذى يتولى السلطة منذ سنة 1946, والذى يعرف بـ “الكولورادو”..وقد حكم من خلال تنظيم حديدى , خاصة فى عهد الرئيس ألفريدو ستويستر(1954-1989).. كان من ثمار هذا الحكم نسبة فقر تتعدى 50% من إجمالى السكان, ونسبة بطالة تقترب من 20%.

 يعد لوجو أحد رموزحركة لاهوت التحرير, وهى حركة دينية انحازت للفقراء فى أمريكا اللاتينية.. وأعادت قراءة الإيمان فى دعم قدرات الناس ورفع وعيهم وحثهم على التغيير النوعى.. أخذاً فى الاعتبار أنها لم تسع للعب دور سياسى أى لم يكن لديها مشروع للحكم.. وإنما كانت تدفع الناس للإنخراط فى المجال العام وتنظيم أنفسهم فى روابط فلاحية وعمالية وطلابية مدنية (راجع دراستنا المبكرة عن تجربة لاهوت التحرير- مجلة القاهرة يناير 1994).

 يحمل هذا أبعادا عدة اجتماعية: بما يعبر المرشح المنتصر عن مصالح الأغلبية (لقد ترشح تحت مظلة التحالف الوطنى من أجل التغيير الذى يضم سبعة أحزاب والكثير من الحركات), وثقافية: بما يمثل من رؤية تجديدية فى مواجهة المحافظين, وإقليمية: حيث القارة اللاتينية تحاول فك ارتباطها التاريخى بالولايات المتحدة الأمريكية التى تعدها منذ مونرو الفناء الخلفى لها.
 نجح لوجو فى أن يكسب كلا من بلانكا أوفيلار مرشحة الكولورادو, كذلك الجنرال المتقاعد لينو أوفييدو بما يمثلان من مصالح شرائح اجتماعية من الوزن الثقيل.

(3) ويتبنى “لوجو” رؤية للتغيير يمكن أن نلخصها فيما يلى..
 سد الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
 تخفيض معدل البطالة.
 إعادة توزيع الثروة، خاصة الزراعية.
 توفير التعليم والصحة للجميع.
 التفاوض مع البرازيل لزيادة ماتدفعه نظير استخدامها محطة إيتايبو الهيدرو- كهربائية التى تشترك كل منهما: الباراجواى والبرازيل فى تشغيلها.
وهكذا تنضم الباراجواى إلى بلدان القارة اللاتينية, يحدوها الأمل فى تحقيق التغيير وفق تحول حقيقى فى موازين القوة فى المجتمع وقبول للتعددية السياسية وتداول حقيقى للسلطة.. ورؤية لتقديم حلول قابلة للتنفيذ ومواجهة أكيدة للفساد.. ورغبة عارمة لامتلاك التكنولوجيا المتقدمة (فى مجال تصنيع البرمجيات اللينة والرقائق الإلكترونية الدقيقة: تشيلى فى المرتبة التاسعة والبرازيل فى المرتبة الخامسة عشر, وكوستاريكا – نعم كوستاريكا – فى المرتبة الثالثة).

إن ماحدث فى الباراجواى, ومن قبله فى تشيلى والبرازيل..إلخ لجدير بالقراءة والفهم والدراسة.. ولعل كلمة الليندى التى أطلقها منذ 35 عاماباتت تعنى الكثير الآن.. وليس صدفة أن يقول لوجو عقب نجاحه:”لقد صنعنا التاريخ.. اليوم أصبح بإمكاننا أن نحلم ببلد مختلف..”.

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern