أعراض صينية

(1) عاد الطفل فرحاً من المدرسة.. فخوراً بما أنجزه فى حصة النشاط, والتى يطلب فيها منه ومن رفاقه صنع أشياء بأيديهم. فلقد استطاع أن يصمم قناعاً ملوناً من الورق المقوى..وأخذ يفرج والديه, ويشرح لهماالأسس التى على أساسها اختار الألوان التى يجمل بها القناع.. كذلك إشارته للخطوط التى أضافها لإعطاء ملامح مميزة لهذا الوجه..أثنى الأب والأم على ابنهما,

ابن السنوات الثمانى, وشجعاه على ضرورة العناية بموهبته, وأنهما سوف يساعدانه على صقلها.. إلى هنا والقصة تبدو عادية ومتكررة. ربما ليس بكثرة, لأسباب تتعلق بالعملية التعليمية المتعثرة. بيد أن القصة لم تنته عند هذا الحد..فسرعان ما لفت الطفل نظر والدته ووالده ألى العبارة التى كتبها على القناع من الخلف.. قرأ الأبوان العبارة التى تتكون من ثلاث كلمات (كتبها الطفل بالإنجليزية) تقول: “صنع فى الصين”. وهو ما أعتبره الطفل أهم ما أنجزه. وما إن انتهى صديقى والد الطفل من رواية هذه القصة التى جرت منذ أسابيع قليلة, حتى توقفت كثيرا عند دلالتها..وحاولت أن أتفهم ما الذى دفع الطفل إلى أن يفعل ذلك..لن أقول إنه كان عليه أن يكتب صنع فى مصر.. ولكن أضعف الإيمان أن يكتب اسمه باعتباره صانع هذا القناع وفق معايير تعلمها فى حصة النشاط, لا أظن أنها تمت بصلة للصين.. ولماذا صار صنع أى شئ يرتبط بالصين.

لا أعرف لماذا قلت بحسم إنها “الأعراض الصينية” ولاشك ..لايوجد تفسير آخر غير ذلك.. ماذا يقصد بهذا التعبير؟
(2) “أعراض صينية” Chinese Syndrome, عو أحد الأفلام المهمة التى قام ببطولتها الممثل الأمريكى العبقرى جاك ليمون مع جون فوندا, وهو تعبير يطلق عندما يحدث تسرب إشعاعى من أحد المفاعلات النووية يؤثر على السكان الذين يعيشون بالقرب من هذا المفاعل وعلى البيئة المحيطة, عندئذ يطلق على الأخطار التى تنتج عن هذه الإشعاعات وتبدأ فى الظهور على البشر والبيئة أنها “الأعراض الصينية”.

الأعراض الصينية فى حالتنا لاتنجم عن أشعة نووية, وإنما عن حضور صينى فى كل مناحى حياتنا من خلال إنتاجهم المهول فى شتى المجالات.. حضور تم بذكاء شديد من “القاعدة للقمة”.. بداية من الباعة الذين وفدوا من الصين وطرقوا منازلنا لبيع المنتجات الصينية مروراً بالاستيراد المنظم, وأخيرا الاستثمار الصينى المباشر فى مصر عن طريق 300 شركة صينية. وها هى السلع الصينية نجدها معروضة فى كل حى ومنطقة ومحافظة.. ولم يفت الصينيين أن يصنعوا كل ما يتعلق بمناسباتنا الدينية, إسلامية ومسيحية, مثل فانوس رمضان وصور الشخصيات المسيحية المقدسة, كذا رموزنا التاريخية والوطنية كعلم مصر الذى يرفع فى المباريات الدولية.

ولعل أهم ما أنجزوه فى واقعنا المصرى هو أنهم لبوا كل ماتحتاجه الشرائح الدنيا. وربما الوسطى. من احتياجات بأسعار زهيدة جداً, جداً. والمفارقة أنه فى الوقت الذى تركت فيه حكومتنا الأسعار لآليات السوق, ظهرت الحكومة الصينية وكأنها هى التى تعمل من أجل خير المواطن المصرى.
(3) لم يعد الصينيون حاضرين بيننا فقط بل هم موجودون فى كل مكان .. ينتجون كل السلع (من الإبرة للصاروخ) ويستثمرون فى كل أنحاء الأرض.. وحدها الصين من بين الدول العظمى التى تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع 48 دولة أفريقية (من إجمالى 53) بحجم عائد تجارى يصل إلى ما يقرب من 50 مليار دولار. ( أصبحت الصين ثالث شريك تجارى لأفريقيا بعد الاتحاد الأوروبى وأمريكا).. (ألم نكن نحن أولى بأفريقيا) هذا بالإضافة إلى حجم اتفاقياتها مع دول آسيا بما فيها اليابان بالرغم من تاريخهما معا.. ونذكر رحلة ساركوزى فى نوفمبر الماضى إلى الصين والتى أسفرت عن توقيع صفقات بـ 20مليار دولار.

ومن ثم لاريب أن تستأثر الصين بالوجدان المصرى للدرجة التى ننسب فيها ما نصنعه إليهم كما لو كان هذا هو الأمر الطبيعى.. الصين بدأب شديد استطاعت أن تتحرك فى كل مكان من العالم بصبر وفاعلية بحسب فريد زكريا (الباحث الأمريكى الهندى الأصل) وتمارس ما يعرف بالقوة الذاتية التى تقوم على كل من القوتين الناعمة والصلبة.. بغير أحاديث إنشائية عن الريادة وبتذليل كل المعوقات البيروقراطية. وبالعمل الدؤوب.. وبالعلم..استطاعوا الانتشار فى القارات الخمس.. والسؤال: إلى أين نحن ذاهبون؟

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern