(1) قرار يصدر ويلغى بعد أيام.. قرار يصدر ويستثنى البعض من تنفيذه.. قرار يصدر ويستمر تنفيذه ويكتشف أنه لا يحقق المرجو منه حيث يتبين أن له تداعيات سلبية أكثر بكثير من نتائجه الايجابية.. أو قرار يتأخر صدوره فتنعدم جدواه متى صدر ..او قرار يصدر تحت إلحاح الحاجة الآنية فيثير الكثير من الجدل والمشاكل فى آن واحد .. أو قرارات متناقضة تصدر متلاحقة فتخل بنوعية مجال تطبيق هذا لقرار وتجعل الناس يفقدون الثقة بمتخذ القرار … إلخ, إنها آفات مصرية بامتياز تتكرر باستمرار.. أو لنقل إنها “فوضى القرارات”.
فعلى مدى الشهر الماضى, يمكن رصد, على سبيل المثال لا الحصر, نموذجين لحالات تعبر عن منهجنا المصرى فى اتخاذ القرارات وما يتسم به من الآفات سالفة الذكر. القرار الأول الخاص بمنع سير سيارات النقل فى القاهرة خلال فترة زمنية معينة من اليوم وذلك بهدف مواجهة الازدحام المتزايد الذى يشكو منه الجميع والذى أصبح غير محتمل. والقرار الثانى الخاص بمنع تصدير الأرز لعدة أشهر بعد قرار لم يستمر سوى أسبوع ثم ألغى, خاص بفرض رسم مالى على مصدرى الأرز لتقليل تصديره.
تعرض القرارين للنقد الشديد.. وكشفت الحوارات التى دارت حولهما أن هناك الكثير قد فات على صناع القرار عند اتخاذه لهما: فما الذى يكشفه ذلك؟
(2) بمجرد صدور مثل هذه القرارات ومتابعة ردود الفعل حولها, يتأكد لنا مدى “الفوضى” التى تتسم بها عملية اتخاذ القرار فى واقعنا..فسرعان ما نكتشف أن هناك غياباً كاملاً للرؤية طويلة المدى.كذلك عدم الدراسة الوافية الداعمة للقرار.. وسيطرة الذهنية البيروقراطية الضيقة على عملية صناعة القرار..وعدم وجود التكامل بين الجهات المعنية فى القيام بدراسات مشتركة تيسر اتخاذ القرار السليم.
• فإذا كان الهدف هو تحقيق السيولة المرورية وهو هدف مطلوب ولا شك, فليكن الإجراء هو منع مرور سيارات النقل فى فترة زمنية معينة..ونكتشف أن هناك من يشكو مثيرا وجهات نظر لها وجهاتها تقول مثلا إنه لابد من تأمين توصيل احتياجات قطاع المستشفيات والمستوصفات على مدى اليوم.. وتتوالى وجهات النظر وتتعدد طلبات الاستثناء من القرار.
• وإذا كان القرار هو إبقاء الأرز لتلبية احتياجات السوق المحلية .. يصدر قرار بتحجيم التصدير أولا من خلال فرض رسوم مالية على المصدرين ويلغى بعد أيام ليصدر قرار بمنع التصدير.. والقراران يعكسان وجود خلل, بدرجة أو أخرى, يمس كلاً من السياسة الغذائية والتصديرية.. وبالرغم من استخدام أحد المسئوولين لمفردات من عينة استراتيجية الوزارة فى اتخاذ القرارين, فى معرض دفاعه عنهما فى برنامج البيت بيتك, مما يوحى بأن القرارين صدرا وفق دراسة .. إلا أن الحوار ومن خلال أسئلة الكاتب والمذيع المتميز محمود سعد قد أكد أن القرارين قد صدرا لحل ما طرأ من مشاكل بشكل آنى.
(3) إن عملية صناعة واتخاذ القرار فى مصر تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة ..فالقرار هو الجانب الملموس الذى يشعر به المواطن فى حياته اليومية وهو الذى يعكس لديه مدى جدية متخذ القرار وهل يصنعه وفق رؤية بعيدة المدى أم كرد فعل.. إن عمليةصناعة القرار ليست” فهلوة”..فهى عملية لها أسس وقواعد.. منها:
توفر قاعدة معلومات خاصة بالموضوع المطلوب التعاطى معه, دراسة خبرات الآخرين والاستفادة مماأنجزوه, دراسة مصالح ومواقف الأطراف التى سيشملها القرار, التوعية بأبعاد القرار والحصول على التأييد اللازم عليه من جميع الأطراف, أن يتسم القرار بأنه استراتيجى وليس مرحلياً.
أن تكون هناك قدرة مرنة ومنطقية على تغيير القرار وفق الرؤية الاستراتيجية الموضوعة سلفاً.. وفى إطار وجود خطة رئيسية, وخطة بديلة.. وهو ما يعرف فى بعض البلدان بالخطة (أ), وخطة (ب), … إلخ.
خلاصة القول أن صناعة واتخاذ القرار”فن وعلم”.. “فن” من حيث الصياغة والتوقيت والحصول على إجماع الناس/المواطنين عليه… و”علم” من حيث دراسة حيثياته وجدواه وعائده… وأن القرار السليم لايتم إلا وفق رؤية واضحة للمستقبل تقوم على العقلانية والمؤسسية.. ومن هنا يبدأ التقدم.