التنمية المستدامة… هى أهم إبداع إنسانى تم التوافق عليه بين مواطنى الأرض على اختلافهم. فى مواجهة الشراسة المالية الكونية واستباحتها لمقدرات كوكب الأرض وفتح الباب أمام إمكانية تدميره. كذلك تغولها فى حصار حقوق المواطن الذى لا يحظى بالمكانة، أو الثروة، ويحرم من أن يكون له نصيب فى الخير العام للأوطان.
وعليه، لا ينبغى التعاطى مع مفهوم التنمية المستدامة، باعتباره «مصطلحا علميا أو فنيا» منبت الصلة عن مضمونه وعن أسباب انتاجه وتأسيسه… أى لابد للأفكار والخطط والسياسات والإجراءات التى تحمل عنوان «التنمية المستدامة» تكون بالفعل تعبر عن المفهوم ومضمونه ومساره التاريخى الذى هو مسار نضالى فرضه مواطنو المجتمع الدولى من كل القارات ـ فى نضالهم تجاه من خربوا الكوكب.
ومنذ عام 1969، والمجتمع العالمى يسعى نحو توحيد موقف المواطنين تجاه السلوك الصريح فى استباحة إمكانية تدمير كوكب الأرض مع انتشار الأسلحة النووية فى أكثر من موقع فى العالم. فانعقد فى سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة الأمريكية مؤتمر لليونيسكو بعنوان: «الإنسان وبيئته: رؤية من أجل استمرارية الحياة». وكان من أهم ما نجح فيه المؤتمر هو دفع الأمم المتحدة الى الاهتمام بقضية ذات طابع بيئى انسانى حضاري. قضية تتعلق بحياة الانسان ومستقبله. وبالطبع تجاوزت النقاشات الجانب الفنى إلى ما هو فلسفى فكرى متعدد المستويات يتعلق: بقيمة الإنسان، وحقوقه، وحدود القوة واستخداماتها، وفلسفة الحروب وأسبابها، وعلى من تعود عوائد الصراعات، ومن الذى يدفع التكلفة، ومستقبل النظام العالمي، ونتائج الإضرار بالبيئة على الفقراء باعتبارهم الأكثر تضررا،…،إلخ.
ولم تمر ثلاث سنوات، عقدت الأمم المتحدة فى ستوكهولم، مؤتمرا بعنوان: «بيئة الانسان» والذى خرج عنه ما يعرف «بإعلان ستوكهولم» الذى حض على التعاون الدولى فى مجال البيئة. وأطلق نقاشات ثمينة للغاية تتعلق «بالقهر والظلم» والآثار البائسة التى نجمت عن الاستعمار فى كثير من بقاع الأرض على الكثير من مواطنى العالم. والحروب الكونية المتعاقبة ونتائجها الضارة: نفسيا، واجتماعيا، واقتصاديا، وسياسيا، وثقافيا،…،إلخ،على غالبية المواطنين. حيث لا يستفيد من هذه الحروب إلا «بارونات الحروب» من جهة، والاقتصادات الإمبريالية. ومن هنا بدأ الحديث عن التلوث والتغيرات المناخية ليس باعتبارها موضوعات فنية «محضة». وإنما هى نتاج للعبث الإنسانى الإمبريالى من جانب، أو للتخلف البشرى نتيجة تعاطى الفقراء المشوه مع الطبيعة من أجل البقاء على قيد الحياة.
وتوالت المؤتمرات: فى 1979 «بلونجرينج» بأمريكا، وبفيينا. حيث بدأ الحديث عن دور العلم والتكنولوجيا فى دعم التنمية من أجل الجميع: الغنى والفقير، فى الشمال والجنوب،…،إلخ. ومهد ما سبق الطريق فى 1980 أن يطلق برنامج الأمم المتحدة وثيقة تاريخية يذكر فيها للمرة الأولى مفهوم: «التنمية المستدامة». وبدء التنبيه إلى محدودية الموارد ومن ثم ضرورة التعامل الأساسى معها لضمان استمرار التنمية للأجيال التالية. وتلقف هذا المفهوم المستشار الألمانى الشهير ويلى براند(1913 ـ 1992)،(تولى المستشارية الألمانية فى الفترة من 1969 إلى 1974)، حيث ترأس لجنة دولية عام 1980 لدراسة «التنمية اللامتكافئة بين الشمال والجنوب: طبيعتها وأسبابها» وبدا الاهتمام بالفقر كقضية كونية وربطها بالعديد من القضايا والإشكاليات. وفى هذا التقرير تم التمييز بين: «النمو والتنمية». وهى قضية لم يزل البعض يخلط بينهما فى واقعنا المصرى الراهن… وكان السؤال الذى دوما يطرح نفسه بقوة: «كيف نضمن تنمية دائمة وممتدة للمواطنين؟»…
وفيما عرف بلجنة بروندتلاند «جو هارلمبروندتلاند سياسية نرويجية تقلدت موقع رئيسة وزراء النرويج من 1981 إلى 1996 على فترات مختلفة. كما أصبحت رئيسة لمنظمة الصحة العالمية من 1998 إلى 2003»، صدر تقرير يحمل اسم تقرير «بروندتلاند» «للتنمية المستدامة». وقد تم تعريفه بما يلي: «هى التنمية التى تكون قادرة على تلبية احتياجات الأجيال الحالية دون أن يكون ذلك على حساب قدرة الأجيال المستقبلية على أن تفى باحتياجاتها». كما وضع الأساس لما يمكن أن نطلق عليه: «التنمية المركبة». حيث تم التأكيد على أن التنمية هى نتاج علاقة متقاطعة بين الاقتصاد والبيئة والقضايا الاجتماعية والسياسة.
هذه الخلفية التاريخية مهمة للغاية لسببين هما: الأول: أن كل مصطلح هو نتاج حركة وجهد بشري/مواطني. لابد من فهم السياق الذى تبلور فيه وتطوره ودلالته وعناصره. خاصة إذا ما ارتبط بحياة المواطنين ونوعيتها. الثاني: أن تداوله لا يعنى يقينا ـ أننا قد أمسكنا به وأننا ننفذه. وإنما معيار جدية تنفيذه هو أننا ندرك روحيته وطبيعته المركبة ومن ثم أبعاده وعناصره وما يحمل من أفكار. يضاف، أن التنمية المستدامة ـ كمفهوم وكتطبيق له العديد من التجليات ـ قد طرأ عليه الكثير من التطورات…
لذا من الأهمية بمكان أن يكون تعاطينا «للتنمية المستدامة» مدركا لتطور المفهوم وأهدافه المتشابكة/المتزايدة ـ منذ 1987 ـ وعارفا لتطبيقاته المتنوعة…وعليه ضمان سلامة وصحة ودقة التطبيق للتنمية المستدامة… ونتابع…