لم أكن أنوى أن أكتب مرة أخرة عن خبرة المؤسسة الاقتصادية التى تناولت ظروف تأسيسها ودورها “كعقل اقتصادي” لمصر فى ظروف غاية فى التعقيد ـ ربما وفيما أظن ـ تتشابه مع ظروفنا الراهنة كما حاولت أن أوضح، فى مقال الأسبوع الماضي.
ولكن، ولسببين قررت أن أواصل الكتابة مرة أخرى عن هذا الموضوع. ويعود السبب الأول إلي: ردود الأفعال التى وردتنى سواء بالرسائل الهاتفية او الاتصالات المباشرة ـ والتى تراوحت بين أهمية التذكير بهذه التجربة الوطنية المهمة وتجديد الحوار حولها، وبين التشكك بين أن يؤدى ذلك إلى التأميم او ما شابه. ما فرض أن أزيد قليلا حول هذا الموضوع. أما السبب الثانى فيرجع إلي: الورقة المعنونة: “خطة عاجلة لانتشال الاقتصاد المصري”؛ والتى نشرت فى جريدة الأهرام على صفحتين فى 16 مارس الماضى ولم أكن أطلعت عليها رغم أننى احتفظت بها فى حينها للقراءة المتأنية، ولم أتمكن من ذلك إلا منذ ثلاثة ايام. ووجدت كاتبى الخطة (ويعدون من أهم عقولها الاقتصادية)الخطة يقترحون تأسيس “لجنة تخطيط استراتيجي” للاقتصاد المصري.
ويبدو لي، مما سبق، أن هناك حاجة ماسة للتفكير الجدى فى كيف يمكن بلورة “كيان” معاصر أشبه “بالبوصلة” التى تحدد الاتجاهات ومقدار الحركة لتقدم مصر. وفى هذا فإنى أتفق مع كل ما طرح فى الوثيقة التى نشرتها الأهرام فى حدود أنها خطة عاجلة “لانتشال” الاقتصاد المصري…ولكن أظن أننا فى حاجة إلى التفكير فى نفس الوقت، إلى ما هو أكثر من ذلك. لذا ذكرنا بتجربة “المؤسسة الاقتصادية وبلجنة التخطيط اللتين تأسستا فى يناير 1957 لمواجهة ـ كما ذكرنا ـ ثلاثة تحديات متداخلة آنذاك هي: أولا: الحصار الاقتصادى الذى مارسه الغرب عقب تأميم القناة وحرب السويس. ثانيا: تردد الطبقة الوسطى فى دعم الاقتصاد الوطني. ثالثا: احجام الرأسمالية المصرية ـ الزراعية/الريفية فى جوهرها ـ عن الاستجابة للتحول للقطاعات الاقتصادية الحديثة: الصناعية والتكنولوجية البازغة.
فلقد كانت المؤسسة الاقتصادية ولجنة التخطيط اقرب “بالعقل الاقتصادي” الذى يبلور التوجهات الحاكمة، ومن ثم السياسات العامة، واختيار الكوادر الواعية القادرة على إدارة الماكينة التنفيذية للدولة فى ضوء التوجهات الحاكمة. ويشير أنور عبد الملك إلى “العمل الباهر” ـ بحسب قوله ـ الذى تم إنجازه. فما هى ملامح هذا العمل الباهر؟
يقول عبد الملك:”فى البداية قدمت دراسة لأوضاع 148 شركة مساهمة مصرية كانت موجوداتها مجتمعة تبلغ 53%(112.9مليون جنيه) من مجموع رأسمال الشركات المساهمة المصرية”. بعد عام من تطبيق حزمة من التوجهات والسياسات حققت هذه الشركات” نسبة دخل إلى الرأسمال الموظف، التى تعكس طاقة الربح فى أى مشروع، 15.1 % لكل الشركات سوية وتراوحت بين حد أقصى يبلغ 38.8% فى الصناعات الغذائية والمشروبات، وحد أدنى يبلغ 4.9%فى القطاع العقاري، بينما بلغت النسبة 25.5%فى صناعة النسيج”. وفى العام التالى مباشرة “ازداد مجموع أرباح 144 شركة 3ملايين جنيه أى بنسبة 7%. ووصلت الأرباح إلى 44.2مليون جنيه أى ما نسبته 35 % من مجموع رؤوس الأموال…هذا بالإضافة إلى الدخول فى مجالات تصنيعية جديدة مثل الصناعات الكيماوية والأسمدة،…إلخ”… كما اشار عبد الملك والجريتلى وحسين خلاف وغيرهم إلى “دور البنوك المصرية فى ضبط العملية الاقتصادية” بالتنسيق بين العقول المصرفية من عينة احمد فؤاد وبين المؤسسة الاقتصادية ولجنة التخطيط. فى هذا السياق لم تكن المسألة تتعلق “بالتأميم” ولا بأيديولوجية القائمين عليه بقدر ما كان يحكمهم هو تأمين الاستقلال الوطنى الاقتصادى فى ضوء السياسى الذى تحقق فى معركة “القنال”.فمشروع المؤسسة الاقتصادية الذى صممه وهندسه اسماعيل صبرى عبد الله لم يكن سوفيتيا وإنما كان مستلهما بعد دراسة مستفيضة لتجارب الآخرين من تجربة إيطالية لهيئة مستقلة وطنية عرفت بمؤسسة”إيري”…وربما يسأل البعض ولماذا لجأ ناصر إلى التأميم لاحقا. وهو سؤال مشروع إلا أن إجابته تتعلق بدور الشركات الأجنبية فى هذه المرحلة فى إفساد الاقتصاد الوطنى وهو موضوع يستحق البحث على أى حال.
وبعد، ما يهمنى التأكيد عليه هو حاجتنا إلى تجديد الخبرة التاريخية. أقول “تجديد” وليس “استنساخ”. فما نحتاج إليه هو “مؤسسة تنموية عصرية”. لا تتعاطى الاقتصاد بالمنطق الجزئى من حيث الحلول التقنية التى تنظمها المنحنيات والمعادلات والعلاجات ـ على أهميتها ـ وليس بإطلاق عناوين من عينة: الشباك الواحد، ومناخ الاستثمار، واصدار القوانين المشجعة للاستثمار، والاتجاه نحو المزيد من الاعفاءات الضريبية،…إلخ. وكلها عناوين جيدة ومهمة ولكن دون وجود رؤية حاكمة للتقدم بمعناه الواسع لن يتحقق أى شيء. وربما يكون السؤال المنطقى ما هى ملامح هذه الرؤية؟ والأهم من هم القادرون على لعب هذا الدور؟ وكيف يمكن بلورة الكيان التنموى العصرى الرؤيوى الحاكم والموجه لعملية التقدم ـ المعقدة ـ لا التكنوقراطى التشغيلى الذى يحقق نموا ظاهريا ويبقى على الجمود والمحافظة… ونتابع..