لست مغرما بلعبة الأرقام التاريخية من سنوات وشهور،والمقارنة بينها. كما لست مؤيدا باستعادة تجارب وخبرات تاريخية للتطبيق فى الوقت المعاصر. ولكن القراءة التاريخية العلمية المقارنة، وإغراء المقارنات الرقمية بين السنوات، يفرض نفسه، أحيانا، بقوة على الباحث. خاصة إذا ما تقارب السياق، وتشابهت الظروف والملابسات السياسية…ما الذى أقصده بهذه المقدمة؟
فى عام 1956، وعقب الحدث الزلزال تأميم قناة السويس، أى منذ 60 عاما، تقريبا، وبعد دحض العدوان الثلاثى فى أكتوبر من العام نفسه. تدعمت أركان السلطة الجديدة سياسيا: داخليا وخارجيا. وكان عليها أن تستجيب للتحديات المجتمعية الشاملة التى استوجبت أن تقوم ضدها ثورة يوليو فى الأصل والتى برزت بوضوح بداية من 1946، وذلك للأسباب التالية: أولا: اختبار مدى قدرة النظام الجديد أن ينجز كل ما عجز عنه حزب الوفد لعقود بصورة راديكالية ، خاصة فى مجالي: المسألة الاجتماعية والاقتصادية: حيث ضرورة إقرار العدالة الاجتماعية، والمسألة الوطنية: حيث حتمية إنجاز الاستقلال. وثانيا: إتاحة الفرصة أمام الشرائح الاجتماعية الوسطى والدنيا لأن يكون لها نصيب فى مقدرات الوطن. وثالثا: إتاحة الفرص المتساوية أمام الجميع فى التعليم والصحة،…،إلخ، كما يمكن إتاحة الترقى والحراك الاجتماعي.
فى هذا السياق، لجأت السلطة الجديدة (يوليو الثورة) إلى الرأسمالية المصرية الموجودة آنذاك، من جهة، وللطبقة الوسطي، من جهة أخري، كى تشارك فى عملية التنمية. إلا أنهما لم يقدما على التعاون. حيث امتنعت الأولى عن التعاون. وترددت الثانية فى حسم تعاونها من عدمه مع يوليو الثورة.
ويؤكد ويشرح أنور عبد الملك فى كتابه المجتمع المصرى والجيش، بدقة بالغة، ما سبق، فى أمرين هما: الأول:اندلاع صراع مكتوم بين رأسمالية قديمةيغلب عليها السمة الزراعية لا تريد أن تشارك فى التنمية. والثاني: الخوف من تزايد الفجوة فى الثروة والدخل بين طرفى المجتمع ما يعنى انقسام المجتمع إلى طبقتين متميزتين:كطبقة أقلية تملك مدخول الإنتاج،وأخرى يزداد عددها باستمرار لن تتمتع إلا بقسط ضئيل من مدخول الإنتاج. (فى هذا المقام يمكن مراجعة، بالإضافة إلى أنور عبد الملك، على الجريتلى فى بنية الصناعات الحديثة فى مصر، 1962. وحسين خلاف، التجديد فى الاقتصاد المصرى الحديث، 1962). يضاف إلى ما سبق امتناع الرأسمالية الغربية عن دعم مصر.
من محصلة احجام الرأسمالية المصرية الزراعية بالأساس، وتردد الطبقة الوسطي، وامتناع الرأسمالية الأجنبية، عن الانخراط فى تنمية الاقتصاد المصري.لم يكن أمام القيادة المصرية ـ آنذاك ـ إلا أن تعتمد على نفسها. فعملت القيادة السياسية ـ آنذاك ـ على تأسيس آليتين ـ فى يناير 1957 الأولي: ما عرف بالمؤسسة الاقتصادية. والثانية: اللجنة العليا للتخطيط القومي. حيث أوكل لهما المهام الآتية: أولا: التخطيط لمستقبل الاقتصاد المصري، ثانيا: رسم السياسات العامة للإدارة والتنمية والاقتصاد، ثالثا: اختيار أنواع الانتاج التى تنقل الهيكل الاقتصادى للبلاد إلى مواكبة التقدم الصناعى فى إطار مؤسسى حديث . رابعا: اختيار إدارات الشركات وفق معايير عصرية موضوعية، خامسا: المتابعة التى تكاد تكون يومية ـ لتحليل المشاكل التى تواجهها الشركات الاقتصادية فى شتى المجالات وكيفية حلها أولا بأول. وسادسا: توفير التدريب اللازم للكوادر العمالية الفنية. سابعا: إنجاز مجموعة من التشريعات بسرعة شديدة داعمة للمرحلة الجديدة. أى تأمين بيئة تشريعية مشجعة. وكان من له فضل فى إنجاز هذا التصور هو الاقتصادى والقانونى والسياسى والمفكر والمثقف الموسوعى البارز اسماعيل صبرى عبدالله وفق نموذج شهده فى إيطاليا. ما ينفى شبهة أنه نموذج أيديولوجى أو ما شابه.
هاتان الآليتان، كانتا أقرب بالعقل المفكر الذى يقوم بالتخطيط ووضع الخطط ومتابعة التنفيذ مع الجهات التنفيذية. والأهم هو أن عناصر هاتين الآليتين كانت ممن يطلق عليهم المثقفون الخبراء، وليسوا بالموظفين، أو الخبراء/التكنوقراط النمطيين.
وأهم ما يتميز به: المثقف الخبير؛ ما يلي: أولا: القدرة على قراءة الواقع وتحولاته، ثانيا: فهم طبيعة الجسم الاجتماعى بطبقاته وشرائحه، ثالثا: طبيعة الصراعات القائمة، رابعا: ميكانيزم عملية التفكيك والبناء القائمتين والمتقاطعتين بين المصالح القديمة والجديدة…انجزت هذه الخبرة لأنها وضعت الرؤية أولا ثم طبقت هذه الرؤية بروحية وذهنية مبدعة حريصة على التصويب المستمر. ويستفيض أنور عبد الملك (وكذلك سمير أمين فى مذكراته وقد كان مسئولا على البحوث فى المؤسسة) فى انجازات المؤسسة ونجاحها فى الانتقال بمصرمن المرحلة الرأسمالية الاستعمارية النمط، إلى رأسمالية صناعية حديثة مواكبة للعصر برؤى وأموال مصرية.
وظنى أننا يمكن استعادة هذه التجربة ـ لا استنساخها ـ حيث يمكن بلورة آلية اقتصادية تعنى بالتفكير والتخطيط ومتابعة التنفيذ فى الوزارات المختلفة ومن ثم التصويب. وذلك فى ضوء رؤية لا تكون محل خلاف. كما تعمل على إدارة الحوار والتفاوض مع المحجمين أو المترددين أو المتصلبين، فى الداخل والخارج، وفق المصلحة العليا للبلاد. ويمكن تطوير وحدات هذه الآلية بما يتناسب مع العصر، واختيار عناصرها بدقة بالغة من المثقفين الخبراء… ونتابع…