الصين وخطة التنمية الاستراتيجية المستدامة

«الإصلاح والانفتاح والمرونة والتجدد المستمر»؛ كلمات صنعت الصين المعاصرة، وجعلت (التنين) الصينى حاضرا كقوة عظمى منافسة أولى للولايات المتحدة الأمريكية.

لقد أيقن الحزب الصينى الحاكم فى مطلع الثمانينيات من القرن الماضى أن التقدم المنشود لا يمكن أن يتحقق بأفكار وتقنيات تجاوزتها الثورة العلمية والتكنولوجية. فالصين الزراعية الريفية ذات الأدوات التقليدية لا يمكنها أن تنافس الآخرين ممن انضموا إلى نادى (اقتصاد المعرفة). فلقد غير التقدم المعرفي، والتجدد التكنولوجى المطرد البنية المجتمعية، ونوعية العلاقات القائمة. فلقد أعادت الثورة العلمية التكنولوجية ـ بحسب شوقى جلال فى كتابه الصين: التجربة والتحدى (تشكيل الأساس المادى للمجتمعس. لم يعد العالم جزرا منفصلة فى صورة دول/أمم قومية قائمة على اقتصادات وأيديولوجيات وثقافات مستقلة أو مغلقة أو جامدة، بل ظهر سياق عالمى كوكبى يقضى لزوما بالتداخل بين الأمم) بالضرورة. ذلك لاحتياج غير المتقدم إلى أن يحصل على التكنولوجيا المتقدمة ممن قطعوا شوطا فى هذا المقام. أخذا فى الاعتبار أن (التنافس والسبق فى ثورة تكنولوجيا المعلومات معقود للأقدر على إبداع وتطوير المعلومات وليس فقط حيازتها).

ونشير هنا إلى أن الصين من أجل أن تبلغ إمكانية التطوير والقدرة على الابتكار قامت بإعادة هيكلة بنية وعلاقات المجتمع. فمن غير المعقول أن تدير الثقافة الريفية المنظومة الفكرية والتقنية لعصر المعلومات والاتصالات. ما استلزم تغير نظم التعليم، والإدارة،والثقافة، والبحث العلمي، ومؤسسات التنشئة.. إلخ. فمن غير المعقول قيادة صاروخ بقيم ومعايير وأدوات قيادة عربة يد.. ونشير هنا إلى الكيفية التى أدارت بها الصين خطتها التنموية الاستراتيجية المستدامة.

فمن حيث الإطار المؤسسي؛ أسست الصين أربعة كيانات للعمل فيما بينها لإدارة العملية التنموية وذلك كما يلي: أولا لجنة عليا للتخطيط الإنمائي، وثانيا: مركز بحوث التنمية، وثالثا: وزارة التجارة الخارجية والتعاون الدولي، ورابعا: كيان وطنى للعلوم والتكنولوجيا، وذلك لتطبيق خطة المائة عام التى ذكرنا مراحلها فى المقال السابق، ووفق التخطيط الوطنى المرن والمتطور تم البدء فى أولا: تطوير العملية التصنيعية والزراعية من خلال سياسات تهدف إلي: التوسع فى الصناعات الثقيلة والخفيفة معا. وسياسات زراعية تحقق اكتفاءً ذاتيا من الحبوب. والولوج إلى تطبيق التصنيع الريفي. وثانيا: الأخذ بالنظام الاقتصادى المختلط. وثالثا: الأخذ بفكرة المناطق الاقتصادية والتى تقترب من الألف، والأقاليم الصناعية، والمختبرات التجريبية، وبالصوبات المعزولة عن جسد الاقتصاد الرئيسي، والمدن التقنية.. إلخ. (للمزيد يمكن قراءة محمود عبد الفضيل العرب والتجربة الآسيوية، والفيل والتنين لروبين ميريديث 2009).

ونضيف إلى ما سبق المرحلة الرابعة الراهنة التى يميزها الامتداد الصينى العابر للقارات. حيث يعكس هذا الامتداد حركة حيوية (للتنين) الصينى تتميز بتوسع كوكبى غير (إمبريالي). يتسم بالنفع المتبادل بين الصين والآخرين بما يضمن استمرار التقدم الصيني، من جهة. ونفع الآخرين، من جهة أخري. وللتدليل على ما سبق نأخذ على سبيل المثال: كيف تعمل الصين على تأمين ما تحتاجه من مواد خام أولية خام(من نفط، وألمونيوم، وفولاذ، وفحم،…،إلخ) لاستمرار النمو الاقتصادى الصيني. وعليه لجأت الصين فى 2006 إلى الانفتاح على إفريقيا حيث عرضت الصين مضاعفة حجم التجارة بين الصين ودول القارة الإفريقية فى مؤتمر ضم 48 من قيادات الإفريقية. وبالفعل كان لها ما أرادت من خلال حزمة من الأفكار المبدعة والعملية (لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة عندما تحكم الصين العالم 2009).

فى هذا المقام، نلفت النظر إلى القدرة الصينية العالية الباحثة عن حلول لأى مشكلة تواجه مسيرة التقدم. حلول لا تنتج إلا من (عقل مركب) لا تكنوقراطي(صنايعي) أو بيروقراطي.

إن أهمية دراسة التجربة الصينية، وغيرها من تجارب تنموية، وخاصة الآسيوية، تفصيلا، باتت من الضروريات. ذلك لما فيها من دروس معتبرة تتسم بالاستدامة والقدرة الذاتية على التصويب. من هذه الدروس نشير إلى مايلي: أولا: القدرة على بلورة رؤية تنموية شاملة تقوم على تصورات وأفكار مبدعة. كما أنها ليست مادية فقط معنية بالبنية التحتية وإنما هى متشابكة وشرطية بين كل الأبعاد. ثانيا: وأن تكون هذه الرؤية مرنة وقابلة للتصويب والاستجابة للمستجدات وامتصاص الأزمات وبخاصة المالية العالمية. ثالثا: ومتحررة قدر الإمكان من التبعية الاقتصادية. رابعا: مراعاة مصالح الأغلبية من مواطنيها. خامسا: الحضور (الدولتي) (الدولة) فى ضبط وتنظيم العملية التنموية. سادسا: التعبئة الوطنية الشاملة لتوسيع دائرة الشراكة فى دعم الحيوية التنموية للبلاد. سابعا:مراعاة الحس الاجتماعى والعدالة الاجتماعية.

إن الاتجاه شرقا كما تفعل القيادة السياسية المصرية لهو خطوة كبيرة ـ وإن تأخرت كثيرا ـ تفتح أبواب الأمل لإمكانية التقدم. فها هو (ربع الكوكب) تقريبا، أى الصين، وأكثر من (نصف الكوكب) فى المنطقة الواقعة فى شرق آسيا من اليابان إلى إندونيسيا، بالإضافة إلى الهند،تشهد طفرة تنموية غير مسبوقة ـ بالرغم من أى ملاحظات تتعلق بالمسألة الديمقراطية فى بعض الحالات، وبطبيعة النموذج المختلط فى حالات أخرى علينا أن ننفتح عليها ونعقد شراكات تنموية معها تمكننا من التقدم.. ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern