«فلتشعر بالأحجار وأنت تعبر النهر»….
إن المتأمل فى الظروف التى كانت تعانى منها الصين مع مطلع القرن العشرين من تخلف ثقافي، وتدهور معيشي، وتبعية اقتصادية استعمارية، وطبقات محلية حاكمة مستغلة، والغرق التام فى تعاطى الأفيون، لا يمكنه أن يتصور أنه سوف يأتى اليوم الذى ستصبح فيه الصين المنافس الاقتصادى الأول للولايات المتحدة الأمريكية، وأن تعبر الصين الحدود والقارات تمد أيديها للآخرين باعتبارها صاحبة مشروع تنموى متميز، ولديها صيغ تعاون متنوعة تقدمها لهم فى إطار مشروعها التنموى المركب. (راجع مقال الأسبوع الماضي: التنين العظيم العابر للقارات).
وهذا النجاح لم يكن ليتحقق، ما لم تستطع الصين أولا أن تتغلب على الواقع السيئ الداخلي. ثم ثانيا اختيار النموذج التنموى الملائم للصين فى ضوء ظروفها الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والديموجرافية، والإقليمية… إلخ، وثالثا وأخيرا العمل على تصويب هذا النموذج وفق المستجدات الكونية، أو بلغة الحكمة الصينية «الشعور بالأحجار أثناء عبور النهر» واكتشاف كيف يمكن تصويب مسار أثناء العبور.
فيما يتعلق بالتغلب على الواقع السيئ الداخلي؛ حرص الثوار الأول على تحليل طبيعة المجتمع الصينى ورسم خريطة طبقية أولية له، فخلصوا إلى أن هناك خمس طبقات فى المجتمع الصيني. وفى هذا السياق أفردوا دراسة خاصة إلى المجتمع الريفى وتحليله بدقة إلى أربع طبقات نوعية تتمثل في: أولا: الإقطاعيون وملاك الأرض الكبار، وثانيا: الفلاحون الأغنياء، وثالثا: الفلاحون الفقراء الذين يملكون مساحات صغيرة من الأرض يزرعونها بأنفسهم، ورابعا: العمال الزراعيون الأجراء المعدمون، وكان هذا التحليل بمثابة «مخطط مفتاحي» Scheme، أولى لفهم طبيعة المجتمع الصينى من حيث: قواه المجتمعية، والأوزان النسبية لهذه القوي، وعلاقاتها داخليا وخارجيا، وأشكال الانتاج فيه،ووسائلها وتوزيعها، وتبين أين بدقة مكامن الضعف والظلم… إلخ. بالطبع خضعت هذه «السكيما» المبكرة الأولية للكثير من التصويبات والتعديلات لاحقا،(أشير فقط إلى أن تصويب الأوضاع وعمل رؤى جديدة وخطط وسياسات ملائمة يبدأ دوما بخريطة مجتمعية، وهو ما عرضنا له منذ شهر حول المسح الطبقى الذى أجرته بريطانيا منذ عامين ورصدهم لطبقة البريكاريات أو الطبقة المهمشة أو المنسية أو المهددة وجوديا، ما يعنى أنه لايمكن التقدم ما لم تتوافر خريطة مجتمعية دقيقة للواقع، ومن ثم وضع تصور ورؤية وخطة وسياسات وفق هذا الواقع).
أما كيف تم التغلب على الواقع الصعب؛ فيجيبنا أستاذنا محمود عبد الفضيل فى كتابه المرجعى الشامل المعنون: «العرب والتجربة الآسيوية»: الدروس المستفادة،2000، من خلال ما أطلق عليه: «المسار التنموى للصين»؛ أو: «رحلة المائة عام»؛ حيث يعرض كيف تطور النظام الاقتصادى للصين من: أولا:نظام التخطيط المركزى (1950 ـ 1978)، إلى ثانيا: تجربة اشتراكية السوق (1978ـ 2000)، وأخيرا وثالثا: الانتقال إلى تطوير قوى الإنتاج والتحديث (2000 ــ 2050)، ونشير فى إيجاز إلى أن حصاد هذه الرحلة ـ كما توقعه هو: أن «الصين قد بلغت نصف الطريق الذى خططت له، وانها باتت قوة اقتصادية وتصديرية مهمة. وأنها فى طريقها للوصول إلى مصاف الأمم المتقدمة مكملة النضج» بحسب عبد الفضيل، وإن كانت كل المؤشرات ـ الآن وبعد انتهاء 65% من رحلة الـ100 سنة ـ تقول إن الصين فى طريقها إلى أن تكون المنافس الاقتصادى الكونى الأول بكتلتها السكانية فوق المليارية (مليار و375 مليون نسمة).
لم تكن الرحلة سهلة ويسيرة، وتشهد الأرقام والإحصائيات التى حققتها الصين فى 2015 على الإنجاز الكبير الذى بلغه التنين الصينى حيث: معدل النمو حول 7%، والصادرات كنسبة للناتج المحلى تقترب من 25% مقابل واردات أقل من 15%… إلخ.
عند التعمق فى الملحمة الصينية ـ بحسب المثقف والمفكر الكبير شوقى جلال ـ أكثر وأكثر، وبعد مرور عقود على انطلاق الثورة الصينية وخوض المسيرة التنموية والاقتراب من نهاية رحلة المائة عام والفوز بجائزتها الكبرى كقوة اقتصادية أولى أو كقوة اقتصادية شريكة/ منافسة للأولي،يمكن القول بحسب جلال: «لقد تغير الإنسان وتغير المجتمع والجميع فى إيقاع حركى متسارع إلى أمام من أجل بناء أمة»… حيث «تعلو الوجوه فرحة البناء كأن زارعا يرنو بنظره فى اعتزاز إلى حصاده وثمار جهده وإلى المستقبل الذى ينتظره»… فلقد مضت الصين بخطوات ثابتة على طريق التطور الصاعد لتستعيد مكانتها التاريخية الحضارية كقوة عالمية مركزية. فلقد صارعوا الزمن لكى يلحقوا بالدنيا الجديدة، فكان مفكروها يدركون أن الغرب حقق ما حققه من جديد فى أنظمته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى اقترنت بالثورة الصناعية لكى تتحقق وتكتمل إلى قرن من الزمان، وعليه فإن التحول فى الصين إذا ما استغرق 50 عاما فقط، فإن هذا يعنى تحولا سريعا بالمقارنة بالغرب، شريطة القدرة على التصويب والتعديل والمواءمة والتجديد والابتكار وفق مفاهيم وأفكار حاكمة فى أثناء العبور بهذه المسيرة والتقدم بالمجتمع نحو القمة.
لقد كان وراء نجاح التنين الصينى فى تقدمه رؤية تنموية وأفكار ألمعية واستراتيجيات وسياسات تصنيعية وتقانية متميزة، رافقتها منظومة قيمية إيجابية أسهمت فى الصعود الصينى المطرد… ونتابع…