قليلون فى مصرنا الحبيبة، الذين اهتموا، مبكرا، بالتفكير المستقبلى، وبمجتمع المعرفة، وبتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. كانت من طليعة هذه الكتيبة: راجى عنايت، وشوقى جلال، والسيد يسين، أمد الله فى أعمارهم. ومن هؤلاء كان نبيل على الذى رحل عنا منذ أيام. الذى أضاف الكثير لجهد طليعة المستقبليين الكثير والكثير…
فلقد انشغل منذ الثمانينيات بالعلاقة بين واقعنا وبجديد العالم فيما يتعلق بالمعلوماتيات. فكان نصه الرائد فى هذا المجال:«العرب وعصر المعلومات، 500صفحة، 1994»، محاولة للولوج إلى هذا العصر، وإلى «الدنيا الجديدة» التى ستتجاوز كل من زمنى: الثورة الزراعية، والثورة الصناعية، بكل قيمهما، وتقنياتهما، وآثارهما،…،إلخ، إلى زمن ثورة المعلومات، الذى أسس لمجتمع جديد وطازج ومختلف جذريا فى كلياته وتفاصيله، عن ما سبقه: أى الزراعي، والصناعي. أو ما يعرف بمجتمع المعرفة الذى يتسم «بالانفجار المعرفى الشديد» ومن ثم «التجدد التكنولوجى المطرد». وتحديد، بدقة، حجم تحديات زمن المعرفة علينا. لذا كتب: «آن وقت الفزع»، وضرورة «البحث عن مخرج». ولم يقف عند حد فتح الباب على العالم الجديد…بل قام بعمل تاريخى جليل.
نذر نبيل على حياته من أجل محاولة اللحاق بجديد العالم فى مجال «المعرفة»، أو بتعبيره: سد «الفجوة المعرفية»، (نشير إلى مجلده «الفجوة المعرفية»، 500 صفحة، 2005). فكان عليه أن يقوم بثلاث مهام فى وقت واحد، وبشكل متداخل.
المهمة الأولى: «رؤيوية» أو استشرافية للمستقبل، فعمل على أن يبشر بالعالم الجديد وملامحه وسماته. وضرب جرس الإنذار بأن العقل القديم: الزراعى، والصناعى، ثم الريعى عندما لم نعد لا زراعيين ولا صناعيين، لن يقدر على مواكبة العصر الجديد الشديد التعقيد والشبكى فى طبيعته. فلقد صار العقل العربى، بهذا المعنى شديد القدم. ومن ثم لابد من عقل جديد قادر على إدراك ما جد، وطبيعة ما وصل إليه العقل الإنسانى الجديد الذى باتت مادته الخام التكنولوجيا التى صارت تتجدد عدة مرات فى العام الواحد. وكان الهاجس الذى يشغله، هو ألا يكون لنا مكان فى زمن الثورة المعرفية. وكان يقول محذرا ما يلي: «أنه منذ أمد طويل وإنتاجنا المعرفى فى تناقص مستمر، ويخشى البعض، ان استمرت الحال على ما هى عليه، أن يستبعد العرب تماما من ساحة إنتاج المعرفة العلمية والتكنولوجية». فدرس الفجوات القائمة بيننا وبين العالم الجديد: فجوة المحتوي، وفجوة الاتصالات، وفجوة العقل، وفجوة التعلم، وفجوة اللغة،…،إلخ. والفجوة القاصمة بين اقتصادنا النمطى وبين اقتصاد المعرفة وطبيعته بدقة شديدة.وفى مواجهة كل هذه الفجوات كان يضع حلولا ونماذج لكيفية سد الفجوات.
المهمة الثانية: تأسيسية؛ وتتمثل فى جهده البديع والمبدع فى محاولته التعريف بمعنى المعرفة وطبيعتها. ومأ أطلق عليه: شجرة المعرفة. كذلك فى محاولته المركبة للتأسيس لفلسفة ورؤية عربية للمعرفة وعلومها وتقاناتها وفنونها. وفى هذا المقام، قام بوضع تصور حاكم لتجديد عملية التفكير لتكون قادرة على مواكبة الدنيا الجديدة التى تتسم بالانفجار المعرفى غير المحدود والتداخل الشديد بين العلوم.وعليه لابد من تجديد عملية «التفكير»، كمهارة ذهنية مركبة تتعدد مستوياتها. فلم يعد التفكير الخطى النمطى التقليدي، السطحى المباشر صالحا فى زمن المعلومات والمعرفة. فالتفكير لابد من أن يكون: «نقديا» و«خلاقا». وعلى المرء ان يفكر فى نفس اللحظة بشكل: تحليلى، وتواصلي، ومتواز، واحتمالي، واستشرافي، وتجريدي، وتركيبي، ومنظومي، وتبادلي. وكلها عمليات يمكن التدريب عليها واتقانها وممارستها. (راجع العقل العربى ومجتمع المعرفة: مظاهر الأزمة واقتراحات بالحلول”، مجلدان 600 صفحة، 2009).
المهمة الثالثة: التطبيق المعرفي؛ لم يتوقف نبيل على عند التشخيص والتفسير والتأصيل والتدليل، وإنما اجتهد بأن يضع حلوله ونماذجه فى موضع التطبيق فى مجالات: قطاع الأعمال الإلكتروني، فى مجال قطاع الخدمات الصحية الالكترونية، فى مجال التعلم الالكتروني، وفى مجال الحكومة الالكترونية،…،إلخ. كما أفرد مجلدا خاصا «بالثقافة العربية». انطلاقا من أن الثقافة باتت هى محور عملية التنمية الاجتماعية الشاملة. وأن تكنولوجيا المعلومات هى محور التنمية العلمية التكنولوجية. ومن ثم لابد من «التشبيك» بينهما. والتأكيد على التكامل المعرفى بين العلوم المتنوعة فى إطار منظومة ثقافية واسعة هى “ثقافة عصر المعلومات”. فلم يعد هناك مجال لهذا التقسيم الأبله الذى يقسم العلوم إلي: «علمي» و«أدبي». (راجع الثقافة العربية وعصر المعلومات، 600صفحة، 2001).
رحل نبيل على فى «صمت دون أن تنعيه الصحف والفضائيات السابحة فى ملكوته المعلوماتي» (كما جاء فى عنوان ملف الأهرام البديع الذى خصصه له على صفحتين يوم السبت الماضي)…ولم أكن أعرف عندما هاتفنى ليهنئنى بالعيد، مطلع هذه السنة، كما هى عادته، التى لم ينقطع عنها قط منذ أن تعارفنا مطلع التسعينيات، إنها ستكون الأخيرة التى أستمع فيها له…وأظن أنه ليس أقل من إعادة طبع مجلداته القيمة الرائدة لتكون متوافرة للقراءة والتعلم والتطبيق. والتى تعد ـ يقينا ـ فى ضوء متابعاتى قاعدة انطلاق معرفية للعالم الجديد لا غنى عنها…رحم الله نبيل علي…ونتابع…