نحو عقد اجتماعى للمهمشين

عرضنا فى الأسبوعين الماضيين لتجربة بريطانية حول الكيفية التى تجدد بها المجتمعات والدول من توجهاتها وسياساتها…

حيث بدأت هذه التجربة أولا: بملاحظة من أحد علماء التنمية فى بريطانيا هو جى ستاندينج سنة 2011، حول الكتل البشرية التى سارت منتشرة فى كل مكان، وتعانى من ظروف معيشية قاسية.

وكيف أن هذه الطبقة تتجاوز فى معاناتها الطبقة الفقيرة بمعناها الكلاسيكي. فعكف على دراسة هذه الطبقة المستجدة ووصفها «بطبقة البريكاريات» Precariat Class؛ أو الطبقة المحرومة/ المهمشة/ المنسية. وهى الطبقة التى صارت خارج البناء الاجتماعي، وأى عناية من الدولة، وسوق العمل. لذا وصفناها بالطبقة «المهددة وجوديا» ما دفعها إلى أن تحمل طاقة غضب مدمرة لفقدانها اليقين والثقة فى أى شيء وبكل شيء…

وثانيا:كيف تم التعاطى معها من خلال إعادة دراسة الجسم الاجتماعى البريطانى بصورة علمية. وهى الدراسة التى أعادت رسم الخريطة الطبقية فى أنحاء بريطانيا إلى «سبع طبقات» وأوزانها النسبية، وأوضاعها، والمهن التى تتميز بها كل طبقة (صدرت فى 2013 وقد عرضنا النتائج فى مقالنا السابق). وكيف أن الطبقة المنسية المهددة وجوديا الغاضبة تصل إلى 15%، وإذا ما أضفنا إليها طبقة العمالة الخدمية غير الدائمة والتى تبلغ 19% كطبقة مرشحة للحاق «بالبريكاريات». فإن المحصلة النهائية سوف تعنى أن أكثر من ثلث بريطانيا سيصبح من المنسيين…

وثالثا: كيف تم علاج هذه الظاهرة من خلال حوار مجتمعى شامل وجاد ضم الحكومة والأحزاب الرئيسية والدوائر العلمية والمجتمع المدني،…،إلخ، من أجل الوصول إلى تصورات جديدة لمعالجة وضع خطر. وهو ما سجله «جى ستاندينج» فى كتابه الثانى المعنون: «عقد اجتماعى جديد من أجل البريكاريات» Precariat Charter (2014). أثار هذا العقد المقترح جدلا كبيرا فى الأوساط الحاكمة فى بريطانيا من أجل تجديد السياسات الاجتماعية وتحريرها من التوجهات النيوليبرالية. كذلك بين القوى السياسية والمدنية والدوائر الأكاديمية. ولعل جانبا من التطور الداخلى لحزب العمال البريطانى بقيادته الجديدة تعكس ما يجرى فى الداخل البريطانى من محاولات جدية لتلبية احتياجات «الغلابة» الذين سقطوا/أُسقطوا من المعادلة المجتمعية بفعل فاعل…

تضمن العقد الاجتماعى الجديد المقترح من أجل المهمشين البنود التالية: أولا: ضرورة وضع تعريف جديد لمفهوم العمل، حيث تعددت صور العمل وتجاوزت أشكالها التقليدية المنتج منها وغير المنتج. ثانيا: تصويب الاحصائيات المتعلقة بالعمالة وأنواع العمل والبطالة. ثالثا: تحفيز المهمشين على الانخراط فى عمليات إعادة التأهيل بتعويضهم عن طول وتعقيد فترات التأهيل الطويلة. رابعا: تصميم اسواق عمل مرنة، تأخذ فى الاعتبار، التحولات التى طرأت على العملية الإنتاجية بأبعادها: الزراعية، والصناعية، والتكنولوجية. فلقد أصبح من الممكن أن يمارس البعض أعمالهم من منازلهم. رابعا: تمكين المهمشين من تنظيم أنفسهم وأن يكون لهم صوت يقاوم المحاولات التى تتم وفق سياسات الليبرالية الجديدة فى إعادة تأهيلهم. ذلك لأنها تتعامل معهم ككائنات مريضة تتم السيطرة عليها. حيث تحركهم نحو أعمال يحتاجها أصحاب العمل. ما يعوق الحراك الاجتماعي. ويعلى من الهندسة الاجتماعية وفق مصالح أصحاب العمل. خامسا: تهيئة مناخ من الحرية والاستقلال داخل مجتمع المهمشين كى يعبروا عن آلامهم وظروفهم بأنفسهم وليس عبر وسطاء من الطبقات الأخرى لها مصالحها وتحيزاتها. سادسا: ضبط استيراد انظمة العمل المستوردة والتى تتسرب عبر العولمة والنظام الاقتصادى العالمي. سابعا: إبداع آليات دمج متنوعة للمهمشين ليكونوا حاضرين فى كل الأبنية المجتمعية الثقافية والسياسية والمدنية والاقتصادية. ثامنا: توقف أى سياسات تقوم على أساس طبقي. أى تميز طبقات على أخري. تاسعا: إعادة النظر فى أنظمة التعليم بما يسمح باستيعاب هؤلاء المنسيين وإتاحة الفرصة أمامهم للتحصيل المعرفى بنفس القدر الذى يتوفر للطبقات الأخري. عاشرا: إعادة النظر فى نظم توزيع الثروة العامة للبلاد. أو ما يعرف بتأمين العدالة التوزيعية لكل المواطنين. عاشرا: دعم الديمقراطية التشاركية التى تؤمن وصول أصوات المهمشين من خلال تنظيماتهم لا عبر وسطاء الديمقراطية التمثيلية. ومن ثم تكون قادرة على نقد ومراجعة وتصويب السياسات المجتمعية بصورة مباشرة. حادى عشر: تهميش المنطق الخيرى فى التحكم فى معالجة مشاكل المهمشين. وبلغة أخري، تحرير السياسات الاجتماعية من منطق «الخيرية». فلا تحل المساعدات الخيرية، محل ما يعرف «بالسياسات الاجتماعية التى تتبناها الدولة القائمة على الحقوق» Rights – based state policy، بأى حال من الأحوال. وفى هذا السياق فليجتهد المجتهدون..

الخلاصة، تعلمنا التجربة البريطانية أن تجديد الدولة والمجتمع هو عملية حية ومستمرة. ولا يمكن الركون على رؤية قديمة أو اخرى نعرفها «اللى نعرفه أحسن من اللى ما نعرفهش»… ولكن علينا أن نستجيب لما يستجد فى ضوء مقومات ثلاثة:الأول: العلم والمعرفة المصقولة ثقافيا (أى الخبير المثقف لا البيروقراطى المنفرد أو التكنوقراطى الضيق الأفق). الثاني: الترجمة الواعية للأفكار إلى تصورات قابلة للتنفيذ من خلال سياسات اجتماعية لجميع المواطنين دون استثناء. الثالث: على أن يتم ذلك فى ضوء حوار مجتمعى جاد يحقق الشراكة بين المؤسسات والكيانات المختلفة والأفراد…ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern