فى إطار دراستنا لأدبيات المواطنة، ميزنا فى 2006 بين “المواطن الفاعل النشط””Active Citizen” الذى يناضل من أجل حقوقه بأبعادها: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، فيكسب جولة ويهزم فى أخري، ولكنه فى المحصلة قادر أن يكون رقما فى المحصلة النهائية للمعادلة المجتمعية. وبين”المواطن المقيم” فى الوطنDenizen””، ولكنه غير فاعل وغير نشط بفعل الكثير من الضغوط الاقتصادية، ومن ثم الطبقية. نعم مقيم فى الوطن ولكنه “منسي/مهمش/مستبعد”، غير معمول حسابه فى المعادلة المجتمعية الكلية.(راجع كتابنا المواطنة والتغيير)…
وعرفت من دراستى لأدبيات علم الاجتماع البريطاني، وبخاصة فى مجال الدراسات المحدثة لعلم الطبقات الاجتماعية، أن مجموع المواطنين “المنسيين/المهمشين” يطلق عليهم: “الطبقة الخطرة” “Dangerous Class”. وقد حاولنا أن نجتهد فى تعريفهم. فقدمنا تعريفا لهم ـ لأول مرة للقارئ العربى نوجزه فى الآتي: “أنهم الطبقة التى تضم شرائح من السكان الذين يقبعون فى أقصى البناء الطبقي/البنية الاجتماعية من أسفل.حيث يعيشون فى ظروف معيشية حرجة،ويتسمون بأنهم يعانون من كل الآفات المجتمعية وفى وقت واحد:بطالة ممتدة،ليس لهم سكن دائم، أو يقطنون أماكن لا تحظى بأى خدمات،أنهم “المهمشون” أو “المستبعدون” أو “المنسيون” الذين يعيشون حول المدن ويشكلون حزاما يمنطقونها به جاهز للاحتجاج والانفجار فى أى وقت.وتزيد محنة هؤلاء إذا ما اجتمع فيهم أكثر من عنصر تمييزيما يفاقم من عزلتهم، ويزيد من احتمالات تفجرهم”…
وفى عام 2011 قدم “جى ستاندينج” (البروفيسور فى مجال الدراسات التنموية بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن)، أطروحة فى غاية الأهمية حول ما أطلق عليه طبقة”البريكاريات” “Precariat”.أو “الطبقة الخطرة الجديدة” “New dangerous Class”،(طبعت ثلاث طبعات فى 2011 وثلاث طبعات فى 2012، بالإضافة إلى طبعة فى كل من 2013 و2014). وتقوم أطروحة “ستاندينج” على أن ملاحظته حول “تنامى طبقة البريكاريات” فى انجلترا ـ وبالتبعية فى العالم كله ـ نتيجة لاستمرار سياسات الليبرالية الجديدة. وهو ما تنتج عنه منظومة من “التفاوتات” الحادة فى شتى المجالات. وعليه، رصد “نموا متسارعا لهذه الطبقة. ففى الاتحاد الأوروبى رصد أن عدد الذين يصنفون من ضمن هذه الطبقة الجديدة يقترب من ربع السكان. ويتسمون بالعمالة المؤقتة، والحرمان من الكثير من الخدمات الأساسية والاحتياجات الطبيعية من وجبات غذائية، وامكانية العلاج، وتوفر فرص التعليم،…،إلخ. وهى كلها عوامل تؤدى إلى تبلور حزمة من المشاعر السلبية من عينة: الاحباط، والاغتراب، والقلق، وانسداد الحراك الاجتماعى أمامهم، وانعدام اليقين حول أى شيء، والتى تجعلهم فى النهاية بحسب ـ أحد الباحثين ـ “بشر فى خطر”. فى هذا السياق، سجل “جى ستاندينج” ردة فعل هذه الطبقة فى ظل القهر المتزايدلهم من قبل ليبراليى السوق وسيادة ما أطلق عليه “زمن القسوة” “Austerity Era”،حيث يترجم الغضب إلى مواقف متطرفة وأفعال مادية تعكس لديهم حالة ثأرية/انتقامية ضد ممارسى القسوة والقهر والظلم. كما رصد الباحث انتشار هذه الطبقة فى كل دول الكوكب.
إن أطروحة ستاندينج تعد من أهم الأطروحات التى طرحت فى بداية العقد الثانى من الألفية الثالثة. وذلك لثلاثة أسباب نوجزها فى الآتي: أولا: نجح فى علاج ما فعلته الليبرالية الجديدة من نزع التحليل الاجتماعى من على جدول أعمال البحث العلمى لفهم الظواهر المجتمعية.ثانيا: أن هناك مستجدات فى البنية الطبقية للمجتمعات لابد من دراستها ولا يستثنى من ذلك المجتمع الغنى المتقدم أو المجتمع الصاعد أو النامى أو المتخلف. فقام هو بعمل تشريح طبقى أولى لا يخلو من جدة وجدية. كما كان السبب فى إطلاق مسح طبقى شامل للبنية الطبقية فى بريطانيا العظمى عام 2013. ذلك لأنه لا يمكن مواجهة الإشكاليات الخاصة بالطبقة الخطرة الجديدة مالم تتوافر خريطة طبقية تعكس المستجدات التى طالت البنية الطبقية للجسم الاجتماعى البريطاني.وعليه سياسات جديدة ملائمة. وهو فى كتابه المذكور يميز بين “السياسات الجهنمية” التى تفاقم أوضاع طبقة «البريكاريات» بحيث يبقى المجتمع فى ثنائية: «الطبقة السعيدة المترفة» فى مواجهة «طبقة البريكاريات» (الطبقة الخطرة الجديدة). والسياسات التى يطلق عليها: “الفردوسية” القادرة على انتشال الطبقة الخطرة الجديدة من واقعها وتحقيق قدر من المساواة بين الجميع. ثالثا: طرح فى كتاب آخر صدر مؤخرا ما أطلق عليه “نحو شرعة حقوق لطبقة البريكاريات”، تتضمن 29 بندا لتجاوز الواقع التهميشيوالاستبعادى لهذه الطبقة. حيث يجتهد جى ستاندينج فى تقديم رؤية متكاملة لصانعى القرار لتبنى أفكارا وسياسات فى هذا المقام. وخاصة أنه لديه قناعة أن الأحزاب الحاكمة فى أوروبا وبرلماناتها لم تزل تمارس السياسة وفق خريطة طبقية قديمة ووفق معادلات سياسية تعود لزمن فات…فى هذا السياق ربما يكون مفيدا أن نعرض ـ لاحقا ـ للمسح الطبقى وكيف أجرى فى بريطانيا. كذلك مضمون إعلان الحقوق الذى يقترحه من أجل زمن أكثر مساواة…ونتابع…