هل بدأ عصر نهاية الرأسمالية؟

هذا السؤال صار محور نقاش كثير من الدوائر العلمية والسياسية والاكاديمية فى العالم. فالإخفاقات المتتالية التى أحدثها الأخذ بسياسات الليبرالية الجديدة، وعدم تحقيق وعودها بأحوال أفضل للإنسانية. كذلك تكرر الأزمات التى حلت من جراء المضاربات «التريليونية» العابرة للحدود، والتى بلغت مائتى (200) أزمة، خلال الفترة من منتصف الثمانينيات وحتى2008 حيث الأزمة الأعظم فى التاريخ الإنساني. والتى عظمت من ثروات القلة على حساب غالبية البشر.

أى أنها فى المجمل أخلت فى مدى فاعلية المواطنة المؤسسة على العدالة والمساواة بين الجميع. كما أصابت البنية الطبقية فى الصميم من خلال الهوة الواسعة بين قمة الجسم الطبقى وباقى هذا الجسم.وتكفى الإشارة إلى أن ازمة 2008 لم تزل آثارها ممتدة حتى الآن. ما يعنى أنها أكثر تأثيرا وضررا مما أحدثته الأزمة الأشهر والأبرز فى التاريخ، أى أزمة 1929. فلقد أطاحت ب15 %من الانتاج العالمى و20% من التجارة الدولية، وخفضت النمو العالمى لأقل نسبة تاريخيا.الأمر الذى أطلق حالة من «العصيان» ضد السياسات الاقتصادية الفاشلة للرأسمالية الكارثية (بحسب ناعومى كلاين»). ولم يكن مشهد الرايات الحمراء والمسيرات الغنائية والهتافات الواعية المناهضة لهذه السياسات خلال الأزمة اليونانية، سواء فى اليونان او خارجها من المجتمعات التى تعاطفت معها ـ إلا دلالة رمزية على أن هناك قوى مجتمعية ضاغطة آخذة فى الانطلاق هدفها تدمير «فكرة ومنطق وممارسات السوق».وذلك من خلال استعادة الدولة لأدوارها «التدخلية»،والضابطة، والضامنة للعدالة الاجتماعية، والمانعة للفقر واللامساواة، فى إطار خطتها التنموية. وهو ما يعرف «بالدولة التنموية».

إلا أن الجديد هو الحضور الفاعل لكل عناصر ما أصفه «بالعناصر الحركية المجتمعية الجديدة»، «كشركاء» مع الدولة التنموية الجديدة ذات الطابع التفاعلى مع الحركيات المجتمعية الجديدة. وليس الدولة التنموية الاستبدادية أو الفوقية التى تكونت بعد الحرب العالمية الثانية. ذلك لأن الحراكات المتنوعة التى عرفها العالم على مدى العقدين الماضيين ضد الرأسمالية الشرسة، قد أنتجت حركيات متنوعة تتجاوز المجتمع المدنى بتشكيلاته وكياناته ومؤسساته التقليدية. ومن ثم لزم دمجها مع الدولة التنموية الجديدة. وهى حركيات ابدعت فى تشكيلها وتحركها بفعل التقنيات الحديثة.

فى هذا السياق، وما أن اثبتت هذه الحراكات فاعليتها فى مقاومة الشراسة الرأسمالية. كان عليها أن تجتهد فكريا وأن تطرح اطروحات وأفكارا بديلة لما هو سائد. ليست تسكينية أو إصلاحية وإنما جذرية فيما يتعلق بالكثير من القضايا مثل: أولا: التركيب الطبقى للمجتمعات ومدى تأثره بتطبيق سياسات الليبرالية الجديدة. وهو ما دفع بريطانيا ـ مثلا ـ فى 2013 إلى عمل مسح علمى على التحولات والمستجدات الطبقية وأحوالها الاقتصادية التى تشير المؤشرات إلى تدهور شرائح كثيرة منها بفعل السياسات النيوليبرالية.(أرجو الانتباه أن هذا يحدث فى بريطانيا أحد بلدان المنشأ لليبرالية الجديدة. وسوف نلقى الضوء على هذا المسح فى مقال لاحق). ثانيا: إعادة النظر فى الكثير من المفاهيم مثل: الملكية، العمل وقيمته، وضعية التكنولوجيا فى مجال العمل والآثار التى يمكن أن تحدثها على كثير من المستويات، دورة الانتاج،…،إلخ. ثالثا: الآليات الاقتصادية ومراجعة تطبيقاتها وتطويرها لصالح المواطنين على اختلافهم من عينة: الاستثمار، ومواجهة الفقر، والرفاه وكيف يمكن تطويره بما يتضمن من أنظمة رعائية وصحية وتأمينية، والعدالة التوزيعية، والموازنة بين الدخول،…،إلخ. وفى هذا المقام بدأ كثير من الدوائر العلمية بما تضم من اقتصاديين وسوسيولوجيين وسياسيين من عمل دراسات عملية حول الكثير من الإشكاليات مثل: كيف يوزع المستهلكون إنفاقهم بين السلع المختلفة؟…كم ينفق المجتمع من دخله وكم يوفر؟…وكيف يمكن قياس وتحليل الرفاهية والفقر؟،…،إلخ. بحيث تتبلور فى المحصلة توجهات، ومن ثم، سياسات جديدة يمكن تطبيقها فى شتى المجالات، تتجاوز تلك التى أدت إلى الاختلالات والتفاوتات بين البشر.

الخلاصة، وكما كتب أحد الباحثين المعتبرين، أن»النيوليبرالية قد خلخلت الصورة: الحلم الرأسمالى التاريخى الذى كان يراود البشر بانه السبيل للحياة الأفضل على مدى 200 سنة. وأنها ساهمت فى تخدير البشرية لعقود. حيث أفاقت البشر على لكمات متكررة فى شكل أزمات مالية/افتصادية متتالية. ما لزم المواجهة»…

وعليه، كان من المنطقي، فى إطار المجتمعات الحية الدائمة التساؤل، إعادة النظر فى «الرأسمالية: كمنظومة فكرية واقتصادية، من جهة، وأبنية محركة للحياة الانسانية وعابرة للجنسيات والقارات، من جهة أخرى. من هنا كان كتاب ديفيد هارفي: «17ناقضا تؤذن بنهاية الرأسمالية»، والذى عرضنا له فى عدة حلقات، وغيره فى مقالات لاحقة. والأهم من هذا السيل من الدراسات والنقاشات الدائرة فى عديد الأروقة حول هذا الموضوع. للدرجة التى دفعت الكثيرين للكتابة حول زمن/عصر/مرحلة «مابعد الرأسمالية» «Post Capitalism»…كما دفعتنى أن أعرض ما الذى يدور فى عقل العالم. وأين نحن من هذا النقاش…ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern