اللامساواة.. ثلاثة أسئلة كونية مصيرية

فى يونيو الماضي، كتبنا أن قضية «العدالة الاجتماعية الغائبة» هى «الخطر الكونى رقم (1)»…وعرضنا للنقاشات والاجتهادات التى يتداولها العقل الانسانى لتفسير اللامساواة والتفاوتات المتنامية بين البشر، ومحاولة تقديم حلول ناجعة للتداعيات الكارثية الناجمة عن غياب العدالة الاجتماعية.

ولكن، ولأن الأمر جد خطير ولم يزل عصيا على الحل. هاهو ملف «اللامساواة» ينتقل معنا من العام المنصرم إلى العام الجديد بصورة تفوق أى وصف.فالمتابع للملاحق الثقافية للصحف المعتبرة العالمية مثل: الجارديان، والفايننشيال تايمز، والواشنطن بوست، والنيويورك تايمز.والدوريات المتخصصة الاقتصادية، والمعنية بمراجعات الكتب المهمة والمؤثرة، سوف يلحظ كيف ان الكتب التى تأتى فى صدارة النقاش والاهتمام هى الكتب المتعلقة «باللامساواة»، والاختلالات المجتمعية المتنوعة الناتجة عن أزمة الرأسمالية العالمية. وهاهى «الفورين أفيرز» المجلة الأمريكية المهمة جدا واسعة الصيت تخصص عددها الأول الذى يصدر مع بداية العام الجديد لقضية «اللامساواة».

ويمكن لنا من خلاصة قراءتنا لحصيلة هذه المساهمات المتنوعة القول: إن السخرية التى كان يطلقها «الليبراليون الجدد، والمحافظون» حول هواجس ومخاوف اليسار مطلع الثمانينيات من جراء إطلاق اقتصاد السوق، وتطبيق سياسات الخصخصة، ومن ثم حتمية اللامساواة، لم تعد مقبولة. ذلك لأن اللامساواة الناجمة عن هذه السياسات الاقتصادية التى لم تخدم إلا القلة قد تجاوزت اللامساواة فى الدخل إلى ما هو أكثر من ذلك بكثير. فالثابت، خاصة بعد الأزمة المالية الأسوأ تاريخيا، فى 2008، أن المجتمعات الإنسانية على اختلافها وبدرجات متنوعة، قد تعرضت إلى عدة ضربات ساحقة كما يلي: أولا: انقسام مجتمعى حاد بين قلة تملك غالبية العوائد، وأكثرية لا تملك إلا الفتات. ففى الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الرأسمالية الأعظم حصد 1% مما يوصفون «بالقلة الثروية» والأعلى دخلا هناك، على نسبة تصل إلى ضعف معدل الزيادة فى دخل نسبة باقى السكان الـ 99%. ثانيا: التعسف فى توزيع الثروة العامة للبلاد. ثالثا: عدم الاهتمام بتوفير سياسات تأمينية وحمائية للمهمشين والفقراء تضمن قدرا من العدل والإنصاف بين المواطنين على اختلافهم. رابعا: غياب تكافؤ الفرص بين المواطنين فى التعليم والرعاية الصحية والخدمات المتنوعة. لذا كانت معركة التأمين الصحى التى قادها أوباما تجاه جماعات مصالح، دفاعا عن وضعية الطبقة الوسطى فى أمريكا، من المعارك التى لم ندركها بعد فى واقعنا المصرى والعربى (نشير هنا فقط إلى عدد الدراسات، غير المسبوق، الذى تناول هذه القضايا والذى نأمل أن نقدمه للقراء الأعزاء فى القريب). خامسا: تفاقم التداعيات المترتبة على «اللامساواة» من تمييز اثني، وتهميش وحرمان اجتماعي، وضعف فرص الاستفادة من الخدمات والبرامج الرعائية، والتعرض لمشاكل اجتماعية حادة، عدم الاستفادة من خطط التنمية، الغياب التام عن المشاركة بأشكالها،…،إلخ.

الخلاصة، فإن الباحث لواقع المجتمع الإنسانى العالمى عبر المائة سنة الأخيرة سوف يلحظ كيف أن «اللامساواة» تزداد باطراد، بشكل يثير القلق على مستقبل العالم. سواء تم الأخذ بمعيار الدخل، أو ملكية المساكن، أو درجة التعليم،…،إلخ، فكلها تعكس أن اللامساواة أصبحت واقعا مؤلما. ما يستدعى الدراسة المكثفة بهدف انقاذ العالم من أسر «اللامساواة».

مما سبق تزايد الاهتمام بإشكالية اللامساواة. وتعددت الاجتهادات خلال السنتين السابقتين، ولم تزل، فى محاولة لمواجهة «العدالة الغائبة». ويمكن أن نوجز أسئلة البحث الراهنة حول علاج اللامساواة بثلاثة تساؤلات أساسية ـتكاد تكون مصيرية ـ يحاول العقل الإنسانى أن يجيب عنها فى هذه اللحظة التاريخية الفارقة من التاريخ الإنساني. هذه الأسئلة بترتيب طرحها هي: أولا: ما الأسباب التى أدت إلى اللامساواة؟…ثانيا: كيف أصبحت اللامساواة واقعا ثقيلا بالنسبة لأربعة أخماس الكوكب، أو بلغة أخرى ما هى «الميكانيزمات» العملية التى ساهمت فى وجودها؟…ثالثا: ما الذى يمكن عمله لمواجهة هذه الكارثة الإنسانية؟(بحسب توصيف البعض ممن اجتهدوا من أجل علاج آثارها السلبية).

وواقع الحال، فإن هذه الأسئلة على مباشرتها وبساطتها، إلا أنها تفتح الباب أمام إعادة النظر فى الرأسمالية وتطبيقاتها. ويقينا، فإنه يمكن القول أن الليبرالية الجديدة قد انتهى زمانها وفقدت صلاحيتها، بحسب ما أشرنا إليه عقب أزمة 2008 فيما وصفناه ـ آنذاك ـ «بيروسترويكاجوردون براون». وأن «إجماع واشنطن الذى ظل مسيطرا لمدة 40 سنة مؤيدا»سياسة «الأسواق الحرة» فى كل مكان، «قد وصل إلى نهايته» Free markets has come to an end….

كما أن مقولة «دعه يعمل، دعه يمر Laissez – faire Laissez – Passerhas had its day…»: قد انقضى يومها وانتهى زمانها.

وعليه، ليس مستغربا أن نجد كتابات، تنشر فى الأسبوع الأخير من ديسمبر، تحمل عناوين من عينة: نهاية الرأسمالية قد بدأ» (الجارديان). والرأسمالية الكارثية. الأكثر أن طليعة كتب العام الجديد تحمل عناوين مثل: «ما بعد الرأسمالية» لبول ماسون، وغيرها(ونذكر بكتاب ديفيد هارفى المعنون 17 تناقضا لنهاية الرأسمالية الذى عرضناه فى حلقات فى الصيف الماضي). وكلها مكرسة للإجابة عن الأسئلة الثلاثة المذكورة كونها أسئلة مصيرية… فبماذا أجابت… نتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern