الدين والمجتمع والعالم الجديد

انطلاقا من حوارات الفكر الاجتماعى الجارية… هناك ثلاثة ملامح تميز صورة الدين والمجتمع والعالم الجديد؛ نرصدها كما يلي:

الأول: أن العلمانية بمعناها التاريخي/الكلاسيكي، والتى تعنى أن الشأن الدينى بنصوصه ووصاياه، وتكليفاته ونواهيه، شأن خاص بالفرد وعلاقته بربه، قد تطورت وبات لها أكثر من تجسيد على أرض الواقع. الثاني: أن الدولة الثيوقراطية/الدينية،

التى يتوحد فيها الشأن الدينى بالدولة والسلطة والسياسة لإدارة شئون العباد «كجماعة دينية» فى إطار دولة دينية محض، لا كمواطنين، باتت أمرا غير مستساغ ولا محل له فى عالم يتطور تطورات مطردة. الثالث:كما أن النماذج والتجارب التى شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وما أشرنا إليه فى المقال الأخير، والتى اختبرنا فيها ـ كبشر ـ استعارات وتداخلات سياسية ـ دينية تجلت فى أنظمة أعلنت علمانيتها ووظفت الدين فى خدمة السياسة والاستبداد تحديدا. وأنظمة دينية مارست السياسة بغير أخلاق كان من نتيجتها «اقصاءات» بغير حدود. كلها قد أدت إلى أن تتجاوز الأجيال الجديدة هذه الصياغات الفاشلة مدفوعة ومدعومة بالمعرفة التى تتضاعف بغير حدود وبالتكنولوجيا التى تتجدد بلا سقف.

فنحن، إذن، نعيش بحسب كثير من الباحثين المعاصرين/ زمن ما بعد العلمنة، وزمن مابعد الثيوقراطية المركزية على المستويين السياسى والديني.إنه زمن «المجال العام المفتوح» و«المتشابك بين مساحاته النوعية»: السياسية، والمدنية، والثقافية، والاجتماعية، والدينية، والرقمية،…،إلخ. وفى هذا الزمن نحن أمام حركة مفتوحة لتنويعات بشرية مختلفة متعددة الانتماءات والمصالح ومن مختلف الطبقات الاجتماعية.

وقد تبلور هذا «المجال العام المفتوح»؛ بفعل فشل المؤسسات والكيانات المرجعية فى استمرار ممارسة أدوارها. فمنذ نهاية الحرب العالمية الأولى (بحسب برايان تيرنر فى مؤلفه الذى صدر فى 2015 المعنون: الدين والمجتمع الحديث)،بدأت هذه المؤسسات فى التدهور على مستوى الخطاب الفكرى والممارسة. وذلك بسبب عدم قدرتها على مواكبة العصر. فالمجتمع الرقمى والاستهلاكى وأحلام/أوهام الليبرالية الجديدة (بالرغم من سلبياته)خلق حالة من التواصل عابرة للحدود أسقطت الكثير والكثير من التابوهات والمحاذير والخطوط الحمراء، من جهة. ولكنها خلقت ـ فى نفس الوقت ـ حالة من التناقضات المجتمعية الحادة بين البشر لم تعد الكيانات التقليدية: المدنية والدينية، قادرة على تقديم العلاجات الملائمة لها، من جهة أخري.

وعليه، وفى وقت واحد، بات المرء يتعرض للظلم الاجتماعى بسبب سياسات الليبرالية الجديدة وتحكم الشركات المتعددة الجنسية فى قرارات دول من جانب، ونجد من جانب آخر مؤسسات مدنية أو دينية تعمل فى المجال الاجتماعى مركزها الغرب تحاول علاج الآثار الجانبية من جراء اقتصاد ظالم لمواطنى الجنوب أو الأطراف. فى ظل هذا المأزق التاريخي، ولد جيل جديد رافض لهذا الواقع المأزوم. يحاول أن يخلق لنفسه مساحات حرة لحركته خارج السياقات المتعارف عليها. نجح البعض كليا. ونجح البعض جزئيا حيث أبقى على ارتباط نسبى لتبعيته للكيانات القديمة. وهناك من لم يزل يدور فى فلك الولاءات التقليدية وإن كان هذا لم يمنعه بأن يأخذ بأشكال الحداثة. ونشير إلى أن هذا التفاوت ـ ربما ـ يكون راجعا للوضع الاجتماعى والطبقى ومدى تعرض كل فئة نوعية زللدنيا الجديدةس بما تحمل من أفكار، وابتكارات، وتطبيقات رقمية، ومنتوجات، وموضات، وبدع وتقاليع،…،إلخ. والمحصلة، هى «مجال عام مفتوح» مواز للأنساق القديمة بأنواعها.

ويتميز هذا المجال العام المفتوح، بقدرته على قبول التنوع لعديد العناصر المختلفة.ذلك لأن كل عنصر لديه ما يمكن أن يميزه مهما كان بسيطا. وهو أمر من اهم نتائج العالم الجديد. فالفرد ليس فقط بالمعنى العلمانى القديم هو قيمة فى ذاته، وإنما بعقله وبرؤيته للعالم والمجتمع والدين والثقافة. وعليه تعتمد شرعية هذا المجال المفتوح للتنوع ـ وهذا هو الأهم ـ على «الاختلاف» بين العناصر لا «التماثل».ويعكس، المجال العام المفتوح، من ضمن ما يعكس على انتهاء أزمنة: العلاقات الهرمية، و التنميط التربوي، والانتظام فى حزب شمولى واحد، والتبعية المؤسسية الثقافية والدينية، والولاءات المطلقة، والذاكرة التاريخية الرسمية، والاعلام الموجه، والتثقيف السلطوي،…،إلخ.

فى هذا السياق، يمكن تفسير تجمعات التواصل الرقمى التى تجمع بين تنويعات بشرية متنوعة، والحركات المجتمعية غير النمطية فى سعيها لأن تعبر عن نفسها بشتى الطرق. وفى أن تتحاور مع بعضها بالرغم من اختلاف عناصرها: أيديولوجيا، وطبقيا، ودينيا، وثقافيا، وجيليا،…،إلخ. إن المجال العام المفتوح هو البديل المجتمعى التاريخى لمواطنين يرفضون أى «انتقاص من مواطنيتهم» سواء لصالح الاستبداد الدينى أو السياسى أو الاجتماعى أو الثقافي.

مجال عام مفتوح سيكون نسبيا بالضرورة. يكون الدين فيه متعدد التأويلات ذات مقومات إنسانية. والعلمانية فيه ـ أيضا ـ متعددة التجليات منها ما قد يسعى إلى روحانية من نوع ما. مجال عام مفتوح، يعتمد طبعة دينية تقوم على حرية الاختيار الإنساني… ويجسد علمانية روحية متجددة… وهكذا يتعايش «المختلفون» لأنه لا سبيل «للتماثل» إلا فى ظل الاستبداد. وهذا ما يجب أن تستجيب له المؤسسات على اختلافها… ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern