فى مواجهة حرب الهويات...

تطرح قضية الهوية نفسها، بقوة، فى أوقات الأزمات التاريخية الكبري. ويقينا فإن الهوية التى كنا نتصورها محصنة تجاه أية تغيرات، لم تستطع أن تقاوم ما حل بالمنطقة من رياح تغيير عارمة. كذلك الهوية التى فهمنا أنها تمتلك إجابة نهائية تاريخية تمكنها من أن تعبر بها اختبارات التاريخ بما تحمل من وقائع جدية وجادة لم تستطع أن تجيب على أى من الأسئلة التى حملتها الوقائع الجديدة ذات الطبيعة المركبة.

وأن أسطورة الهوية الساكنة: غير القابلة للمراجعة، ذات المرجعية الحاكمة والقدرة على الضبط والتسيير لإرادات الأفراد، قد أصيبت بالعطب. فلم تستطع إدراك المستجدات ومن ثم فإن مرجعيتها باتت فى غير سياق. فلقد حل بالمنطقة تحولات غير مسبوقة فى تاريخها. تحولات متعددة ومتداخلة تجسدت فى العديد من التجليات منها: الحركات العربية، والإقصاءات الثقافية، والتفاوتات المجتمعية، والممارسات العُنفية، وحروب متعددة المستويات، ومطالبات تغيير مجتمعية متنوعة، وضغوط شبابية، وتجاوزات حقوقية،…،إلخ، ما أدى إلى إحداث انقسامات عميقة فى بنى المجتمعات العربية وانتشار ما أطلقت عليه مبكرا: «فيروس التفكيك»؛ من جهة.

ومن جهة أخري، كشفت عن سوء أداء الدولة الوطنية وبخاصة دولة ما بعد الاستقلال فى «تطوير الوسائل الفاعلة لاستيعاب الأقليات القومية والدينية والإثنية». والنتيجة النهائية هى ما نشهده فى مواضع كثيرة من تزايد الاختلافات بين أعضاء مجموعة قومية وأخري،كذلك بين أعضاء مجموعة دينية وأخري،وبين أعضاء المجموعات القومية والدينية، وبين المجموعات الإثنية وكلما سبق،…،إلخ.وفى المحصلة،تنامى غياب الاستقرار السياسى وإطلاق استخدام العنف بغير ضوابط. وبلغة أخرى انفجرت الهويات الكبري، و«تشظت» إلى هويات صغرى تمترس بعضها فى مكانه وبعضها اجتاح مساحات من الأرض اجتزأها لصالح هويته الصغيرة الجديدة التى نتجت عن الانفجار. والأخطر هو «تحارب» هذه الهويات.

وما يجب تسجيله هنا، هو أن الهويات الصغيرة التى تنطلق فى ربوع «الجغرافيا العربية» تكون لنفسها أطرا بعيدة عن الإطارات التاريخية الكلاسيكية السياسية المتعارف عليها: الإمبراطورية الجامعة، أو القومية الدولتية (نسبة للدولة)،…،إلخ.حيث تنتزع شرعيتها «بالإكراه»، وتبلور «هوية مقاومة» Resistance Identity (بتعبير مانويل كاستلز). ويقصد بها الهوية التى يتبناها الفاعلون السياسيون والاجتماعيون والدينيون الذين قرروا أن يمارسوا دورهم بمعزل عما هو قائم بل ومحاربته وإسقاط الدولة بمعناها التاريخي. أو اضعف الإيمان إقامة البديل الموازي، أو الانصراف كليا عما هو قائم والاكتفاء بالحياة على قاعدة الخصوصية المختلفة، أو الخصوصية النقيض لخصوصية الأغلبية،…،إلخ.

وهنا بالضبط تكمن الخطورة، فالتجربة التاريخية سواء العربية أو الأوروبية (مع الأخذ فى الاعتبار الاختلاف فى مسار التطور التاريخى بينهما وأسبقية تبلور الدولة قبل القومية أو العكس) تقول: «بارتباط التقدم بالهوية القومية الجامعة والموحدة. والقادرة على استيعاب التنوع فى أُطرٍ عصرية ديمقراطية على قاعدة المواطنة.وعلى النقيض تماما فإن ضرب الدولة وإسقاطها، وفرض الإيمان بهوية بعينها، أو ما يعرف «بالهوية المنفردة» و«ذات ارتباط أحادي»، والتعامل مع الفرد باعتباره تابعا تحت الولاية، والتحارب مع كل الهويات المختلفة، فإنه سوف يصل بنا الى التهلكة لا محالة.

إن الحروب والخصومات والتحرشات، التى تتزايد فى المنطقة والتى تنطلق وفق منطلقات الهوية والخصوصية تنذر بخطر داهم. وعليه فإن المهمة الملحة التى يجب أن نلتف حولها هى الاهتمام بتجديد «الهوية الجامعة». ومن يتابع القارة الأوروبية بما تتضمن من هويات وخصوصيات وإثنيات تعيش على أرضها. عليه أن يقف متأملا كيف استطاعت القارة العتيقة أن تُدمج دول القارة بعد عديد الانقسامات(بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي، والتدخل فى يوجوسلافيا التى جرت فى تسعينيات القرن الماضي) ونتج عنها ميلاد دول مستقلة مثل: مولدافيا، وليتوانيا، وإستونيا، والتشيك والسلوفاك،وكرواتيا، والجبل الأسود،…،إلخ، من جانب. وكيف تعايشت المنطقة العربية بكل خصوصياتها على مدى قرون، بدرجة أو اخري، من جانب آخر.

إذن، الفهم التاريخى من جهة، ودراسة الآليات المعاصرة الضامنة لمواجهة «تشظى الهويات» وعدم تركها «لحالها» «كهويات مقاومة»، من جهة أخري، مهمتان عاجلتان لتجديد «الهوية الجامعة» المركبة عل قاعدة المواطنة الثقافية. هذا سبيلنا لإيقاف حرب الهويات. وأظن هذا ما تحمله حملة حق الشهيد.

وهو أمر لن يتأتى إلا بالعمل الجماعى العربي. عمل جماعى يعيد النظر فى نظم التنشئة، ومراجعة مناهج التعليم، والمواد الإعلامية،..،إلخ…وممارسة ديمقراطية آمنة وصحية ومفتوحة تحول دون اختطاف الأفراد كأتباع للأمير، أو لتنظيم، حسب فوكو، أو لجماعة أولية أو دينية، حيث تفرض الهوية قسرا عليهم واستعبادهم لحسابها بالتالي. ومن ثم التوقف عن حروب الهويات المدمرة لصالح الشراكة لبناء الأوطان فى إطار نموذج تنموى جديد(ليس ريعيا أو تابعا)…ولايفتنا أن نشير إلى أنه فى ظل حرب الهويات تنشط الروح الاستعمارية لتجدد هيمنتها التاريخية على مقدرات المنطقة وتعمق الإلحاق والتجزئة…ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern