فى كل رحلة خارج مصر واطلاعى على جديد الكتب الصادرة أو الأفكار التى يتم نقاشها، أو مع المتابعة اليومية من خلال «الشبكة العنكبوتية المعرفية»، يتأكد اقتناعى بالفجوة المعرفية التى تزداد بيننا وبين المجتهدين. فما أن يبدأ المرء فى بحث موضوع من الموضوعات أجده لا يقل عن ـ ما أطلق عليه ـ أربع أو خمس موجات معرفية تفصلنا عن جديد المعرفة.
فلقد كلفت مؤخرا بإعداد دراسة تأصيلية حول أزمة الهوية. اكتشفت المدى الذى بلغته إبداعات العقل الانسانى فى هذا المقام. فمع تنامى الصراع بين الثقافات والأديان والمذاهب والإثنيات، وسريان «التحلل القومي» فى الدولة الواحدة. انتفضت عقول كثيرة من شتى الاتجاهات والتيارات كى تحاول أن تفهم ظاهرة «تشظى الهويات»، والارتداد إلى صراعات بين الجماعات الأولية فى عصر مجتمع المعلومات.
فيبدع مانويل كاستلز ثلاثيته التى تقترب من 1500 صفحة حول الاقتصاد والمجتمع والثقافة فى زمن المعلومات (طبعة مزيدة ومنقحة ـ 2010)، مخصصا الجزء الثانى عن «قوة الهوية».كما تدفع أمارتيا سِن أن يدرس العلاقة بين «الهوية والعنف». بالإضافة إلى أنتونى جيدنز، وبرايان تيرنر، وآلان تورين، وتشارلز تايلور، وكيميلكا،…،وغيرهم، لفهم أسباب «تشظى الهويات». والكيفية التى تتحارب بها الهويات وكيف تبنى فى الواقع. وأخيرا كيف يمكن تجاوز هذه الحالة «المتشظية» من خلال سياسات عملية…نناقش اليوم الأسباب والبيئة التى تؤجج تشظى الهويات…
أولا: أسباب تشظى الهويات؛ يجيب «برتران بادي» فى كتابه المرجعى «الدولة المستوردة» عن ذلك بقوله:»…أنه و بسبب عدم اليقين المحيط بمفهوم المواطنة…وضعف استبطان هذا المفهوم…وبسبب فشل مؤسسات الاندماج وتناقص قدراتها. وفشل الارتباطات الأفقية ارتباطات المصالح المادية لمختلف الفئات الاجتماعية الممثلة للنقابات والروابط وجماعات الضغط والاتحادات النوعية القدرة على بناء جماعة سياسية قومية.. ذات هوية وطنية واحدة جامعة. ما يؤدى إلى أن الدولة تصبح دولا. وذلك بالعودة إلى الخصوصيات الصغيرة، والتمرد على جميع أشكال الاندماج الأفقى حيث يتم تعزيز الهياكل المستندة إلى الشللية وعلاقات الموالاة،وإحلال الارتباطات الرأسية(القبيلة والعشيرة والمذهب، أى كل ما هو قبل الدولة الحديثة) محل الوظيفة الاندماجية للدولة». أى بدلا من أن ينتظم المواطنون معا بغض النظر عن الاختلاف فى تكوينات مدنية حديثة جامعة. نجدهم يرتدون إلى الجماعات الأولية التى ينتمون إليها. وعليه يخلص «بادي» إلى أنه: «يتم إنعاش الهويات/الخصوصيات السابقة للقومية»؛
مما يؤدى إلى تنشيط ما يعرف «بالتحلل تحت القومي». و بدلا من بلوغ الخصوصية الثقافية العامة فإنها تتفتت (تتشظى) حيث ترتبط كل هوية بشبكة علاقات تدعم حضورها عوضا عن أن تندمج مع الدولة فنجدها قد تندمج مع جماعات ثقافية غير قومية أو ترتبط بتدفقات اقتصادية متنوعة, الأمر الذى يعنى إعاقة الانتماء للمواطنة.وبدلا من ان يتشارك المختلفون معا فى إطار جامع وطنى واحد. نجدهم وقد باتوا يعيشون كما يلي: «متجاورون، أو فى حالة سجالية، أو فى حالة إقصاء/نفى لبعضهم البعض».
ثانيا: أما عن الكيفية التى تصل فيها الهويات لحالة التشظى فى عصر المعلومات؛فيجيب كاستلز الذى اختص مسألة الهوية باهتمام خاص فى مجلده الثانى الذى حمل عنوانا فرعيا هو: «قوة الهوية». حيث عُنى بدراسة الهويات فى علاقتها بالحركات الاجتماعية الصاعدة فى كل مكان فى ظل كوكب تربطه شبكة معلومات لا سقف لها. أخذا فى الاعتبار التحولات غير المسبوقة ـ تاريخيا ـ التى داهمت الدولة والسياسة والديمقراطية فى ظل العولمة وتقنيات المعلومات. والمدى الذى بلغه التغير الاجتماعى فى دول العالم. وكشفه أن الهوية باتت رافعة أساسية لتغيير الواقع لكثير من الجماعات فى كثير من الأماكن. ومن هنا ركز كاستلز على ما أطلق عليه: «التناقض الديناميكي» بين الشبكة(شبكة المعلومات) وبين الذات، وكيفية تبلور الهوية التى تنمو قوتها/ سلطتها فى تضفير العمليات الاجتماعية التى تفسر العولمة، والجغرافية السياسية، والتحولات الاجتماعية،…إلخ. أى وبلغة أخرى، اصبحت الهوية وسيلة للتغيير والتمرد فى ظل الهيمنة أيا كان نوعها.
كما أضاف كاستلز فكرة مهمة تتعلق بمصدر الهوية الراهنة. حيث أرجعها للفعل الاجتماعى وتطلعات الفرد/الجماعة فى المجتمع، بغض النظر عن طبيعة التغيير: الذى قد يكون: «داعشي» أو «مناهض للعولمة». ففى القديم كانت الهوية تتحدد فى ضوء السمات الثقافية الموروثة، أو الأدوار التى تعد سلفا وفق القيم الثقافية. أما فى زمن التغيرات المطردة فإن «بناء الهوية» اختلف. حيث تسمح الهوية بالتفاعل مع الفعل الاجتماعى للفرد من خلال عملية غاية فى التعقيد تختلف فيها الهوية والأدوار بحسب من أى موقع اجتماعى ينطلق الفرد ومن أجل أى قضية يدافع فى لحظة تاريخية معينة وفى مكان بعينه…بهذا المعنى أصبحت الهوية من المرونة أن تنفتح على التقنيات الحديثة كذلك وسيلة لتحقيق الأهداف بأنواعها. أى أداة تنظيم وتعبئة…ولكن كيف تبنى الهويات وتتصارع فيما بينها…ونتابع…