فى لحظة واحدة تقريبا، منتصف أكتوبر الماضي، تكشف فى كل من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا موقفهما من الشرق الأوسط. بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية نشر كيسنجر مقالا فى وول ستريت جورنال الأمريكيةـ أظن انه يتجاوز صفة المقال إلى ما هو اكثر من ذلك بكثير ـ عنوانه: «نحو مخرج لمواجهة انهيار الشرق الأوسط». وفى المقابل ترشح عن الإدارة الروسية ما يمكن أن نطلق عليه: «عقيدة بوتين/روسيا تجاه الشرق الأوسط»… ما الجديد ؟
تشيرالقراءة الأولية للرؤيتين الأمريكية والروسية، إلى أن هناك توافقا أوليا حول المنطقة، وفق معاهدة وستفاليا، التى وضعت حدا لحرب الثلاثين سنة بين المتحاربين فى أوروبا فى عام 1648. وبموجبها تأسس: «نظام وستفاليا». وهو النظام الذى يعد نقطة تحول تاريخية للنظام الدولى حيث أسس لثلاثة أمور هي: الأول: مبدأ السيادة والمساواة فى العلاقات بين الدول بغض النظر عن المساحة أو الكثافة السكانية أو القدرة الاقتصادية،…،إلخ. الثاني: وضع الحدود الحاسمة بين الدول وإعادة رسم الخريطة ليس على أساس مقاطعات وإنما على أساس دول. والثالث: اختفاء سيطرة الدين باعتباره أساسا للسياسة الخارجية. والمفارقة، أن رؤية كيسنجر تتفهم تدخل روسيا فى سوريا والمنطقة باعتباره «كلاسيكيا يهدف إلى تأسيس توازن قوى يبعد أى تهديد ارهابى من التنظيمات الممتدة داخل الدول القائمة». أو بلغة أخرى عدم المساس بمنظومة الدول المعترف بها تاريخيا. وبقاء الوحدة السياسية القائمة على أساس الدول هى الأساس. ما يعنى ضرورة حسم هذه المساحات المخطوفة لصالح التنظيمات المتنوعة. أين الخلاف، إذن؟
نقطة الخلاف، أن كيسنجر فى مقدمة رؤيته، وفى الخاتمة يحدد أولويات السياسة الخارجية، نجده يستعيد مشهد ما بعد منتصف السبعينيات باعتباره المشهد المثالي. فاللحظة التى يراها كيسنجر مثالية بالنسبة للمنطقة هى لحظة تخلى مصر عن الاتحاد السوفيتى مطلع السبعينيات، وانضمامها إلى عملية مفاوضات تدعمها أمريكا. والنتيجة استقرار المنطقة على مدى أربعة عقود. وبالكاد بقيت روسيا على تخوم المنطقة من خلال علاقتها بسوريا. فى المقابل ترى روسيا أن الفترة التى توصف بالاستقرار هى الفترة التى شهدت الإعلان عن خطة الولايات المتحدة الأمريكية حول نشر الدرع الصاروخية فى أوروبا على مقربة من الحدود الروسية، كذلك توسع الناتو فى مهام عسكرية مرئية وغير مرئية. والأخيرة هى التى يقوم بها الناتو فى مناطق من العالم، ومن ضمنها ما يهدد روسيا، دون أمر مباشر من مجلس الأمن. لذا أعلنت روسيا بوضوح فى عقيدتها العسكرية: أنه «من بين الأخطار العسكرية التى تهدد الوطن نشر القوات الأجنبية فى الدول والمياه المجاورة». ما يعنى أن روسيا بالرغم من توافقها مع أمريكا على إعادة المنطقة على أساس التعامل بين أطرافها انطلاقا من «شرعية وستفاليا»، أى كدول ذات شرعية ومستقلة. إلا أنها لن تسمح بالتخلى عن أداء أى دور فى المنطقة كما كان الحال فى العقود الأربعة التى يتحدث عنها كيسنجر. إذن لا خلاف بين الرؤيتين المطروحتين على إعادة الاحترام لسيادة الدول وإعادة الجغرافيا على ما كانت عليه. «وحين تفكك المنطقة الإرهابية» يبحث ـ عندئذ ـ مصير سوريا.
إلا أن المشكلة فى تقديرى هى الرؤية الأمريكية التى لم يزل لها أنصار فى أروقة الكيان المالى الصناعى العسكرى التكنولوجي. التى لم تزل ترى العالم «مناطق حيوية»، وهى الرؤية التى فرضتها نظرة إلى العالم تراه «فضاءات» أقرب إلى «الأسواق». والأسواق بهذا المعنى ما هى إلا مساحات ممتدة تابعة للإمبراطورية/المركز. ومن ثم لابد أن يكون لكل منطقة حيوية/فضاء جغرافي/سوق؛ قوى تمثل مصالح المركز/الإمبراطورية. وخاصة أن التاريخ يقول إن تورط مركز الإمبراطورية فى أن يدير الامتدادات خارجه قد تعجل بسقوط هذه الإمبراطورية. وعليه فكرت أمريكا أن دوام هيمنتها على الثروة والموارد العالم يكون بإيجاد عناصر تابعة تدير هذه المناطق دون أن تورطها مباشرة.وهى فكرة موثقة فى كل وثائق الأمن القومى التى صدرت عن الإدارة الأمريكية بعد سبتمبر 2001. والمراجع لوثيقة «الإبحار ضد العاصفة» (يناير 2001)سوف يجد تطبيقا لفكرة: «المناطق الحيوية/الفضاءات الجغرافية/الأسواق على منطقة الشرق الأوسط. تديرها أمريكا الإمبراطورية عبر ثلاثة ركائز تابعة لها هي: «إسرائيل، وتركيا، وإيران». (وقد كنا أول من أشار إلى هذه الوثيقة وخطورتها فى حينها. فلقد أشارت إلى حرب اسرائيل وحزب الله ، كذلك موت عرفات عندما ذكرت مرحلة ما بعد عرفات). فى هذا الإطار جاء الاتفاق الأمريكى الإيراني، ومحاولات التليين التركى الأمريكي. وهى رؤية ورثها أوباما الذى جاء لحل تناقضات الداخل الحادة (راجع مقالاتنا حول تحولات الداخل الأمريكي). ولكى يقدم نموذجا لرئيس يميل إلى اليسار ويعنى بالطبقة الوسطي. ويحاول أن يوازن، خارجيا، بين رؤية كيسنجر الكلاسيكية والرؤية المتشددة الإمبراطورية…
والسؤال هل يمكن أن نستفيد من التوافق الآنى بين روسيا وأمريكا حول أهمية سيادة الدول. أم تنتصر فكرة المناطق الحيوية…هذا هو التحدى الذى يواجه الشرق الأوسط…ونتابع…