الغيطانى: «تحوتى...المسكون بالتوق»

كلما كنت أرى الأديب الكبير جمال الغيطاني، أتذكر فورا «تحوتي» الذي: «ابتكر الحروف والكلمات فلقد كان تحوتى هو رب قلعة العلم (هيرموبولس) فى الأشمونين فى صعيد مصر. فلقد كان هذا المعبد مقصدا لكل طالب علم وباحث عن المعرفة». وهناك كان يحتفى «بعيدالحقيقة»..مامكن «تحوتى» من أن يدرك جوهر الأمور فى مصر…

فى هذا السياق، أظن أن من يدخل عالم الغيطانى الأدبى سوف يقرأ نصوصا منسوجة من عدة مصادر:التاريخ، والتصوف، والخبرة الشخصية، والفلسفة، والعمارة، والزراعة،…،إلخ، تعبر عن حقيقة مصر وجوهرها. لم يكن أدبه نمطيا يتكون من بداية وحبكة ونهاية. وإنما كان يحاول ان يقدم نصوصا تنطلق فيها «الطاقة الكامنة فى كل كلمة يتم تسطيرها». بحيث تكون مجموع الكلمات نصا ابداعيا يقرأ من زوايا متنوعة. أو ما يعرف بتعدد مستويات القراءة. حيث يشعر القارئ بأنه فى «حالة تتداخل فيها المتعة والمعرفة والصنعة الأدبية والحقيقة».

فإذا تحدث عن ترحاله عبر محافظات مصر فهو يرتحل بالقارئ إلى عمق الأماكن يستخرج ما بها من تفاصيل قد تتقاطع مع التاريخ، والثقافة الشعبية، والأساطير،…،إلخ. بالإضافة إلى تقديم سيرته الذاتية بتشابكاتها المجتمعية. كذلك عبر ترحاله خارج مصر. وبالطبع يتضمن الترحال لقاء العديد من الشخصيات كما تعبر به الكثير من الوجوه. وفورا تجد كل تفصيلة مدونة فى عمل غاية فى الإبداع. يتم تضفير كل التفاصيل بطريقة بديعة. ويصبح لسان حال كل قارئ مثلما كانوا يطالبون تحوتي: «ليتك تحوتى تأخذنى إلى مدينتك فى الأشمونين…وتدخلنى معبدك: معبد الصدق…فإننا للعلم عطشى كالباحثين عن الماء فى الصحراء…». هكذا وصف يمكن أن نشبه أدب الغيطاني. قد يعود للتاريخ لينسج رواية مثلما فعل فى «الزينى بركات» أو «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، أو يكتب عن الواقع مباشرة كما هو الحال فى «المؤسسة»، أو يكتب جامعا بين أدب السيرة الذاتية وأدب الرحلات وأدب الأقصوصة فى «دفاتر التدوين» السبعة. أو أدب الحرب كما جسده فى «الرفاعي» أو «حكايات الغريب». أو ما يمكن تسميته الكتابة الفلسفية/التاريخية التى تعكس خلاصة الخبرة الانسانية والحضارية ونموذجها عمله الأخير «حكايات هائمة» والتى كان «تحوتى» حاضرا فيها بقوة…

وفى كل الأحوال الأدبية نجد أنفسنا وقد دخلنا عالما ثريا يسطر كلماته خبير بالأمكنة وعناصرها المتنوعة، وعريف بالأزمنة ودوراتها المتعاقبة، وماهر فى إدراك الوجوه مهما اختفت وراء الأقنعة…الأهم أنه مهما ارتحل خارج مصر ومهما أطل على بلدان أخرى فإنه كان «مسكونا بمصر» لا يبارحها ولا تبارحه. وفى هذا المقام وصفته أثناء «خُلسة المرض» بأنه «الحارس الأمين على مصر والمصريين»…

بالإضافة إلى ما سبق، نجح جمال الغيطاني، فى جعل «أخبار الأدب»مقصدا ماديا للأدباء يلتمسون منها الاعتراف والانتشار. ومن ثم باتت عنوانا للحقيقة ـ قدر الإمكان ـ وموقعا لكل ألوان الطيف المصري. وأذكر دعوته الكريمة لأكتب فى أخبار الأدب حتى يكتمل «بوكيه الورد المصرى»، وكم كانت مبادرته كريمة عندما خصص عددا من صفحات أخبار الأدب بالإضافة إلى الغلاف للاحتفاء بالجائزة الدولية التى منحتنى إياها الأكاديمية النرويجية للآداب وحرية التعبير سنة 2004. أو ما كتبه عنى عندما قبلت أن أكون نائبا لمحافظ القاهرة فى أغسطس 2011.

كان الغيطانى فى سنواته الأخيرة، لديه يقين، وأظن بتأثير العمليات الجراحية الكبيرة التى أجراها، أن العمر قصير ومن ثم عليه أن يعمل ويعمل.ويقول فى نص بديع يقدم به الدفتر الأول من دفاتر التدوين المعنون خُلسات الكرى ما يلي:«ما تبقى أقل مما مضي. يقينٌ لا شك فيه، أعيه. أتمثله، أعيشه،… لماذا يسرع الإيقاع مع قرب التمام؟ لماذا تنشط الخُطى وتسرع الحركة عند الدنو؟ لماذا يقوى العزم عند قرب نفاد الطاقة؟ لماذا يقع التوثُب مع صلصلة أجراس الرحيل؟ لماذا تكون أقصى درجات اللمعة قبيل الانطفاء؟»

وفى وصف بديع لطبيعة المراحل العمرية للإنسان يقول الغيطانى:«حتى الثلاثين، يكون التطلع أكثر من الالتفات.بدءا من الأربعين، وبعد فقد الأحبة، يكون بدء إدراك الفوت. حتى إذا حلت الخمسون، وأوصدت أبواب، أيقنت أن ما تبقى سينقضى كَنُدَف اغمام إذ تذروها الرياح، لهذا شرعت،…».

نعم شرع الغيطانى بقوة. ولمَ لا وهو «المسكون بالتوق». فأبدع فى السنوات التى وصفها بالمتبقية. فعاش حتى احتفلنا بسبعينيته منذ شهور وقد خصنى بمكالمة هاتفية لدعوتى لحضورها…ولم نكن ندرى عندما شرفنى بقبول دعوة السحور بمنزلى فى حضور المفكر والمؤرخ اللبنانى الدكتور خالد زيادة(سفير لبنان فى مصر)، والأديبة ميسون صقر، وصديق العمر المفكر الأستاذ نبيل عبد الفتاح، أنه سيكون «السحور الأخير» فلقد تجلى الغيطانى بصورة لم أشهدها من قبل فى الحديث عن القاهرة ومصر ووعدنا بأن يصحبنا فى جولات فى القاهرة التى كان يعرفها حجرا حجرا…ولكن القدر لم يمهله…رحم الله الغيطانى وألهم أسرته ومحبيه الصبر والسلوان…وليت نصوصه تظل حاضرة فى طبعات شعبية…ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern