سعدت جدا بالملف الذى خصصه الأهرام الأربعاء الماضى (14 – 11) المعنون: (مصر تتجه شرقا. لماذا الآن؟). ذلك لأن الملف قد أوضح أهمية هذا الاختيار الاستراتيجى الذى انحازت إليه مصر، وضروراته، وردود أفعال العواصم الفاعلة فى المنظومة العالمية لتوجه مصر نحو الشرق.
فلقد عاشت أجيال مصرية، على مدى عقود، رهينة رؤية سلطوية فاسدة تتسم بلمحين هما: الأول: لا يرى إلا الولايات المتحدة الأمريكية كلاعب وحيد فى الملعب الدولي، لأنها تملك 99% من أوراق اللعب الكونية. وهو ما ثبت أنه غير صحيح. وأننا صدقنا هذه المقولة – بوعى أو غير وعى وكأنها “قدر استراتيجي”، مما وضعنا فى حالة من التبعية التامة. فى الوقت الذى كانت فيه كثير من دول العالم تتحرك فى شتى الاتجاهات وبشتى الطرق “لفك الارتباط” القسرى والقدرى بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية من خلال “شراكات استراتيجية متعددة”. أما الملمح الثانى للرؤية السلطوية: فهو الإصرار على أن قواعد اللعبة الكونية لا – ولم تتغير. وعليه لم تدرك هذه الرؤية الشائخة حجم التغيرات التى لحقت بالعالم عقب تفكيك الاتحاد السوفيتي. وأن الحرب الباردة، بين القطبين الكبيرين: الرأسمالى والاشتراكي، قد انتهت. وأننا بصدد زمن جديد وصفناه منذ ما يقرب من عامين فى هذا المكان (بالحرب الهادئة Cool War وأشرنا وقتها كيف أن هذه الحرب تختلف كليا عن الحرب الباردة. فالحرب الهادئة – الراهنة – الجديدة ستفتح المجال للتوافق والنفع الاقتصادى والتقاسم الجغرافى بأقل خسائر ممكنة. إنها حرب تقوم على “الجدل” المعقد: صراع وتنافس من جانب، وتعاون وتوافق من جانب. مشاركة اقتصادية عملاقة مما يعنى تنسيقا وتوافقا من جهة، وامكانية الصراع فى إطار الوصول إلى توافق. (ويمكن مراجعة كل من الحالتين السورية والأوكرانية فى هذا المقام). وهى حالة عرفها التاريخ بشكل تقريبي، ذلك عندما بدأت روما القديمة تواجه قرطاج الصاعدة، وبريطانيا العظمى تقابل تحدى ألمانيا البازغة قبل الحرب العالمية الأولي. إنها حالة تختلف جذريا عن الحرب الباردة التى ينفى فيها كل طرف الطرف الآخر: إما التبعية إلى المعسكر الأمريكى أو الانحياز إلى المعسكر السوفيتي.
وفى هذا السياق، نلفت النظر إلى أن البعض بعد 30 يونيو، ومع ارتباك العلاقات المصرية الأمريكية وهى ترفض القبول بتمرد المواطنين المصريين على الاستبداد الدينى بعد حراكهم ضد الاستبداد السياسي، قد تصور أن العلاقة مع روسيا أو الصين هى البديل لعلاقتنا مع أمريكا. أى العودة لمنطق الحرب الباردة. وهو ما ينبغى التحرر منه. خاصة أن التاريخ القريب يقول لنا بأن مصر قد تحركت صوب الشرق فى الثمانينيات والتسعينيات وفى مطلع الألفية. ولكن يبدو أنها كانت تحركات أقرب إلى المناورات مع الولايات المتحدة الأمريكية. ما يعنى أن “التوجه إلى الشرق” يجب أن يكون استراتيجيا لا تكتيكيا. مما يستلزم متابعة دقيقة ودؤوب لكل الاتفاقات: العسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية، إلخ، التى تمت خلال الأشهر القليلة الماضية فى كل من: الصين، وإندونيسيا، وسنغافورة، إلخ. ومن قبل روسيا واليابان. وأظن أن هناك ضرورة أن يمتد تحركنا فى الشرق الآسيوى نحو فيتنام، وماليزيا. ويقينا لا ننسى الهند.
إن فتح النوافذ “لريح الشرق”، بحسب أستاذنا أنور عبدالملك، ضرورة موضوعية. لماذا؟
منذ مطلع الثمانينيات، وأنور عبدالملك، يدعو إلى التواصل مع الشرق من خلال علاقات تتجاوز التبادل التجارى أو العلاقات الوظيفية والتى تكون من بعيد لبعيد – إلى ما يمكن أن نطلق عليه: “الحضور الحيوي”. فمصر عرفت هذا التوجه منذ عصر “سقنن رع وأحمس ورمسيس وتحتمس. وجدد هذا التوجه جمال عبدالناصر” من خلال نهج وآلية باندونج. ذلك لأن تعميق العلاقة العضوية بين جناحى الشرق إنما يعنى قدرة على التأثير فى العلاقات الدولية، والاستفادة من تقدم الجناح الآسيوى الصاعد بقوة، ومواجهة القيود الاقتصادية والوصفات المالية الفاسدة.
إن إطلالة على موازين التبادل التجارى بين دول الشرق الآسيوى وأمريكا وتحديدا: الصين وروسيا والهند، سوف يلحظ كيف انتقلت موازين القوة الاقتصادية إلى الجهة الشرقية من العالم. وهو ما دفع بريجنسكى إلى أن ينبه إلى هذا فى آخر كتبه: “رؤية استراتيجية” (وقد عرضنا لمضمونه فى أكثر من مقال منذ ما يقرب من عامين). ودعوته إلى تفعيل فكرة “الغرب الحيوى الكبير” فى مواجهة “الشرق الصاعد – المتجدد الضخم”، الذى بات يحقق نجاحات مذهلة مادية ومعنوية على مستوى كل دولة على حدة أو على مستوى آليات الشراكة المتنوعة التى قامت بينهم والتحقت بها دولا من خارجها. إنه الشرق الضخم الذى يضم: التنين الصيني، والدب الروسي، والفيل الهندي، إلخ، والذى التحق به البرازيل وجنوب إفريقيا.
الخلاصة، إن التوجه شرقا، قرار صائب، بامتياز، ومهم جدا لمصر، بالرغم من تأخر هذا القرار عقودا من الزمن. ذلك لأن المسرح الدولى فى لحظة تشكل جذرية سوف ينتج عنها تعدد القوى الدولية الفاعلة والمؤثرة خاصة من الشرق الآسيوي. ما يمكن أن يتيح لنا الاستفادة التى تعوضنا خيرا وتقدما.