تحولات الداخل الأمريكى (2) ستة اختلالات كبرى

«انكشف المستور». تعبير، أظنه، الملائم لوصف الداخل الأمريكى منذ مطلع التسعينيات وعقب انتصار الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة فى الحرب الباردة على الاتحاد السوفيتي. نعم كان الانتصار يعنى تكريسها قوة عظمى وحيدة كونية. إلا انه ــ فى نفس اللحظة ـ كشف عن كل ما حاولت التعمية عليه ـ تاريخيا ـ مؤسسات الحكم الأمريكية: الرئاسية، والمالية، والعسكرية، والصناعية من اختلالات فى شتى مناحى الداخل الأمريكي.

ففى نشوة النصر الكونى كان الداخل يئن، والاختلالات تزيد وتتسع. إنها الاختلالات التى دفعت العقل السياسى الأمريكى التيقن أن النماذج الرئاسية الثلاثة التى عرفها عبر تاريخه، أولا: النموذج المؤمن بتفرد أمريكا، وثانيا: النموذج القومى بطبيعته المدنية والدينية، وثالثا: النموذج التقدمي، لم تعد قادرة على التعاطى مع هذه الاختلالات…

فالمشهد الذى كانت تتجمع تفاصيله عقدا بعد عقد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مرورا بالحرب الباردة ووصولا للأزمة المالية فى 2008 كان يعكس إلى أى مدى وصلت إليه أحوال الداخل الأمريكي. فمنذ أن انقلب المجمع العسكرى الصناعى فى الأربعينيات على سياسة الصفقة الجديدة وانحاز للتصورات الاقتصادية التى أطلقها فريدمان وتلامذته أو ما عرف بمدرسة شيكاغو لحصار الكينزية ذات الطابع الاجتماعى والتى تتيح تدخل الدولة فى ضبط الاقتصاد بما يضمن قدرا من العدل. تراوح الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون فى مواقفهم كما تراجعت النخب الداعمة لهم عن مراعاة الحقوق المدنية والبعد الاجتماعى من إصلاحات تأمينية واقتصاد يعود بالخير على الجميع أو ما عرف تاريخيا بقيم الصفقة الجديدة الروزفلتية/الكينزية.

وبحسب تحليل دقيق ورد فى كتاب Ruling America انحازت نخبة رجال الأعمال المتحالفة مع المحافظين الدينيين والتى تدعمها شعبوية جنوبية، ضد أى طروحات ذات طابع تقدمى أو تفعيل التنظيمات المدنية النوعية… فلقد انقلبوا على كل الإجراءات التحديثية التى حدثت فى وقت من الأوقات وجرى فيها: إعادة توزيع الدخل بما يفيد الشرائح الوسطى والطبقة العاملة والسماح بالأخذ بآلية التفاوض كوسيلة مدنية للحصول على الحقوق… وجعل الصناعة مركزية فى كل مكان من الولايات الأمريكية وسن القوانين ووضع البرامج الخاصة بالتأمين الاجتماعى والصحي. ومحاولة حل مشاكل الإثنيات المتنوعة التى تعيش فى أمريكا… ويشير كتاب «إمبراطورية الثروة: التاريخ الملحمى للقوة الاقتصادية الأمريكية» (2004)، لمؤلفه جون ستيل جوردون، (ترجمة ممدوح هشام ممدوح طه لمكتبة الشروق الدولية 2007)، إلى أن الاقتصاد الأمريكي، بدأ فى الانهيار بشكل حاد منذ السبعينيات. كما حدث وضع غير مسبوق فى تاريخ أمريكا هو حدوث «كساد مقترن بالتضخم»… وهكذا صارت الرأسمالية الأمريكية أمام أزمة هيكلية حادة من نوع لم تعرفه عبر تاريخها مع الأزمات.

على النقيض تماما تم الاهتمام بسن تشريعات تعفى الأغنياء ضريبيا وتمنحهم امتيازات على حساب الفقراء. كما تقرر تقليص الاعتمادات المخصصة للبنية التحتية خاصة فى المناطق الفقيرة والتى تكتظ بأعراق غير بيضاء. وتم تجميد مشروع عملاق يتكلف 14 مليار دولار لتدعيم السدود المتهالكة فى لويزيانا. واقتطع الكثير من المال المخصص للتحكم فى الفيضانات فى مشروعات كانت تنفذ بالفعل. وتوالت فضائح شركات البترول. ويذكر المؤرخ الأمريكى هوارد زين ـ ، إلى أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء مع نهاية حكم ريجان قد زادت بشكل ضخم…ففى سنة 1980 كان مرتب موظفى الشركات يزيد 40 ضعفا عن مرتب العامل فى مصنع متوسط وتضاعفت النسبة مع مطلع الألفية الجديدة… كما ارتفع مرتب أغنى الأغنياء الذين يمثلون 1% من السكان بنسبة 77% قبل اقتطاع الضرائب فى حين لم يحصل الفقراء الذين يمثلون أفقر 50 من عدد السكان على أى مكاسب،…، إلخ… وفى المحصلة أتت الأزمة المالية فى 2008 لتكشف كل شيء…

ما دفع أحد الباحثين أن يستدعى عنوان مسرحية تنيسى وليامز الأخيرة «بيت آيل للسقوط» لوصف أوضاع الداخل الأمريكي.

فى ضوء ما سبق، يمكن أن نبلور ما حل بالداخل الأمريكى من اختلالات كبرى دفعت باستدعاء هذا الوصف القاسي، وذلك برصد ستة اختلالات تجلت فى الموضوعات والمجالات والمساحات التالية: أولا: توزيع الثروة. ثانيا: المساواة بين طبقات المجتمع. ثالثا: تأمين وصول الخدمات العامة بين المواطنين الأمريكيين دون تمييز. رابعا: صيانة واحلال وتجديد المرافق العامة والبنية التحتية فى كل الولايات الأمريكية. خامسا: توفير الحماية الاجتماعية المطلوبة من خلال تطبيق صارم للأنظمة التأمينية المتنوعة على كل المواطنين. سادسا: اندماج الإثنيات المختلفة فى المجتمع الأمريكي…

وبالأخير، كانت هناك حاجة ملحة لمواجهة هذا «البيت الآيل للسقوط» من خلال رئيس يتجاوز النماذج الرئاسية الثلاثة التى أشرنا إليها. وأن يتسم بما أطلق عليه «بالتقدمية الراديكالية»… لمواجهة «الاختلالات الستة الكبرى» التى حلت بالداخل الأمريكي… فكان «باراك أوباما» هو هذا الرئيس… والسؤال هل استطاع أوباما أن يواجه هذه الاختلالات… وأن يمارس قدرا من التقدمية الراديكالية لمواجهتها؟… ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern