مصر من المركزية إلى اللامركزية...مدى إمكانية التقدم

دون مقدمات سألنى صديقي:»فهمت من مقالك الأخير أن الدول التى تنتمى لما يعرف بالنمط الأسيوى للإنتاج، حيث تتميز بأن الدولة تسيطر على الإقطاع وتعرف بأنها الإقطاعى الأعظم يكون «تقدمها» أبطأ من الدول التى تنتمى للتطور الرأسمالى المعروف؟أجبته بكلمة واحدة:»نعم»…فعاد وقال:»أين مصر من هذه المقولة»؟…وهل هذا يعنى تأخر التقدم؟…وهل هذا أمر حتمي؟…وألا توجد دول قد كانت مركزية وقديمة قدم مصر واستطاعت أن تتحرر من المسار النمطى وتتقدم؟…و…

وقبل أن يسترسل صديقى فى الاسئلة، قلت له: «انتظر، مهلا، لن أستطيع ان أجيبك بمنطق نعم ولا، فلابد من أن نلقى الضوء على المسار التاريخى لمصر، فى إطار تقسيم ـ أجتهد فى تقديمه ـ يقوم على أربع مراحل رئيسية وذلك كما يلي: أولا: المركزية التاريخية المطلقة، ثانيا: مركزيات الحكام الوافدين، ثالثا: المركزية المحدثة، رابعا: اللامركزية البازغة.

أولا: المركزية التاريخية المطلقة: وهى تتعلق بنشأة الدولة فى مصر وملكيتها بشكل حاسم للأرض، حيث تقوم الدولة برقابة المنتج الاقتصادى الرئيسى للبلاد الذى تقوم بالسيطرة عليه، مع غيبة الملكية الخاصة للأرض. فى هذا الإطار تؤسس الدولة اداتها العملية لإدارة هذه العملية: الزراعية بالأساس، وما يطلبه ذلك من توجيه مركزى لإدارة شبكة الرى بتعقيداتها. هذه الأداة هى الحكومة وذراعها الأساسية الجهاز البيروقراطي/الإداري. وامتدت هذه المرحلة على مدى الأسر الفرعونية القوية والضعيفة حتى زمن البطالمة.

ثانيا: مركزية الحكام الوافدين: منذ البطالمة وحتى محمد على وفد إلى مصر يحكمها على التوالي: الرومان، والبيزنطيون، ثم العرب: الولاة، فالطولونيون، والإخشيديون، والفاطميون، والأيوبيون، والمماليك، والعثمانيون. وكان هؤلاء الحكام يفدون إلى مصر حاملين نظمهم السياسية والاقتصادية والتى كانت هى نفسها مركزية الطابع. ونتيجة لما سبق،فإن المصريين قد وجدوا أنفسهم ـ فى أرض الواقع ـ أمام مركزية مركبة من محصلة: المركزية المصرية الوطنية التاريخية ومركزيات الحكام الوافدين.

وقبل الانتقال إلى المرحلة الثالثة، نشير هنا إلى فكرة نجتهد فى طرحهاوذلك كما يلي: أن نظم الحكم الوافدة إلى مصر قد جلبت معها نظما سياسية واقتصادية مركزية مثلت عبئا إضافيا على المصريين. وأدت إلى إحداث اختلالات وتشوهات فى بنية مصر الاقتصادية والاجتماعية. وليتخيل معى القارئ الكريم كم من نمط اقتصادى عرفته مصر فى أوقات متقاربة…هناك أولا الاقتصاد المائى المركزى المصري، والاقتصاد البحرى التجارى والعبودى البطلمى والرومانى والبيزنطي، والبدوي/الفتحى (بحسب الراحل نزيه نصيف الأيوبي)، والقرابي/الإقطاعى الأموي، والإقطاعي/التجارى العباسي، والعسكرى الاقطاعى العثماني،…،إلخ…

المحصلة أن المركزية تضاعفت حيث باتت تتكون من: المركزية المصرية التاريخيةالمطلقة والمركزيات الوافدة ذات الاقتصادات المتنوعة. والتى كان جل هدف هذه المركزيات جمع المال من المصريين. لذا عرفهم سمير أمين «بالأنظمة الإتاوية»(من إتاوة). ما أثر كل ذلك على إعاقة تقدم مصر ومعاناة المصريين…ونلفت النظر إلى أن هذه السلطات الحاكمة الوافدة كانت تعامل المصريين كمحكومين مأسورين لخدمتهم لا كمواطنين يشاركون فى حكم وطنهم(بحسب وليم سليمان قلادة)، ولم يكن للتماثل الدينى أى اعتبار لا فى المرحلة المسيحية أو الإسلامية.

ثالثا: المركزية المحدثة: وهى التى تأسست مع محمد علي. حيث حمل محمد على تراث مصر المركزى فى مشروعه لإقامة مصر العظمى مع تحديث للدولة بمقوماتها الثلاثة: الجيش الوطني، والجهاز الإداري، ومؤسسات الحداثة. إلا أن هذا المشروع قد تضمن عدة ملامح دعتنا لنصفه بالمركزية المحدثة وذلك كما يلي: الملمح الأول: حضور المصريين فى هذا المشروع بتملك الأرض الزراعية، أو بالعمل الفني/التكنوقراطى والإداري…مع كسر حلقة المركزية ـ بعض الشيء ـ وعدم غلقها على الإثنية الحاكمة.(او ما وصفناه بدء مسيرة المواطنة من أعلى فى كتابنا المواطنة والتغيير).الملمح الثاني: لجوء محمد على لجديد العالم فى الإدارة والإنشاء. الملمح الثالث: الدخول فى مجال التصنيع.

عند هذه المرحلة يمكن القول إن مشروع محمد على قد أضاف إضافة حقيقية لمصر. لم يجعلها تتخلى تماما عن المركزية التاريخية المطلقة ولكنه أضاف إليها «بعضا من ملامح المعالم الرأسمالية»(بحسب أحد الباحثين)…وظلت هذه التوليفة على مدى زمنى ممتد. بقيت الطبيعة المركزية وأضيف لها الحداثة الثقافية والسياسية من 1919 إلى 1952 ثم الحداثة المادية فى صورة التصنيع الناصرى حتى 1969…ومن 1970 احتفظت الدولة بمركزية «الضبط والربط» ولكنها تركت المواطن يدبر حاله. حتى 25 يناير.

رابعا: اللامركزية البازغة: يمكن اعتبار 25 يناير تعبيرا عن بحث المواطنين عن الشراكة فى السلطة والثروة، فى ظل تغيرات عالمية تضرب المركزية فى الصميم، وتحولات مجتمعية مركبة تفكك صيغة المركزية المحدثة. حيث من غير المنطقى أن تظل صيغة المركزية المحدثة قائمة فى حركة مواطنية حرة يعتمدون فيها على أنفسهم فى كل شيء.

فى ضوء ما سبق، يمكن أن تتقدم مصر مثل الهند بعد أن تتحرر من المركزية المطلقة والمشوهة والمحدثة لصالح اللامركزية…أى أن إمكانية التحول ممكنة شريطة الوعي…ونتابع…

 

طباعة   البريد الإلكتروني
0
0
0
s2smodern